مختصر عبقرية عمر


مقدمة

نحن الجيل الذي درس عبقرية عمر – لعباس محمود العقاد - في الثانوية العامة, وكانت مدرستُنا – تخليدا لذكراه - على اسمه؛ مدرسة عباس محمود العقاد الثانوية العسكرية بأسوان. كان ذلك عام 1979م. قُرِّرت بعدها لعام آخر ثم رُفعت نهائيا, وحل محلها ما كان يدرسه جيلُنا في الصف الثالث الإعدادي, مما يؤرخ لاضمحلال المستوى الثقافي عند الطلاب ما قبل التحاقهم بالجامعة. ولقد كان لدراسة عبقرية عمر أثرٌ بالغٌ في جيلنا, فقد عشقنا عمر وسمّينا به أولادنا بعد ذلك. ثم حدث أن وقع في يدي الكتاب مرة أخرى عام 2022 فقرأته بعقل ذي الستين عاما, ووقفت فيه على معان لم أدركها المرة الأولى. وصدق العقاد إذ قال: "إن كتابا تقرأه ثلاث مرات خير من ثلاثة كتب تقرأ كلاً منها مرة واحدة". وكأنه يعني كتبه! فلديه من الأسلوب الإنشائي والأسلوب التحليلي ما لا تنفع معه القراءة السطحية المتعجلة. فرأيت أن أبسّط الكتاب للأجيال المعاصرة ضنا مني بأعمارهم أن تنقضي ولم يقفوا على دلائل العظمة الإنسانية التي وضعها الله في أعظم ثالث شخصية في أمة الإسلام بعد النبي  ص وأبي بكر. والكتاب في مجمله ليس سردا لسيرة عمر, وإنما تحليلٌ لشخصية ولجوانب العظمة الإنسانية فيها.


منهجية الاختصار

يقع كتاب العقاد في 307 ثلاثمائةٍ وسبع صفحات مقاس A5. صار بعد اختصاره في96 ست وتسعين صفحة من نفس المقاس. فكنت أعمَدُ إلى الفقرة فأقرأها ثم أعيد صياغتها بأسلوب أبسط مع الاحتفاظ ببنات أفكار العقاد وكثير من مرادفاته وأساليبه. واستغنيتُ بعد ذلك عن إعادة إجمال الفصل بعد تفصيله. كما استغنيت في كثير من الأحيان عن مقدمات القصة عامدا مباشرة إلى لبِّها والعبرةِ المستفادةِ منها. كما قمتُ في مناسبات قليلة بنقل قولٍ أو فعلٍ لعمر إلى حيث يجدي أكثر؛ كنقل قولِهِ: "إذا أصاب أحدكم ودا من أخيه, فليستمسك به. فقلما يصيب ذلك" من باب "عمر في بيته" إلى باب "ثقافة عمر". وقد ابتدأتُ رأيي الشخصي بعبارة "وأقول:" أو "وأرى, وأعتقد" للتمييز بينه وبين كلام العقاد, ومن ذلك القضايا التي خالفتُ فيها العقاد؛ كقضية عزل عمر لخالد ابن الوليد أو قضية تجسس عمر على شارب الخمر. 

وما قصدتُ إلا أن تنتفعَ الأجيالُ الجديدةُ بسيرة هذا الرجل العظيم, وليعلموا أي نماذج مضيئة قدم الإسلام للبشرية. والله من وراء القصد.


محمد إيهاب الأزهري

الإسكندرية 20/11/2022

مقدمة العقاد

يحكي العقاد في مقدمته الظروفَ التي كتب فيها الكتاب في مدينة الخرطوم. ثم ينفي عن نفسه تهمة تحيزه لعمر على طول الخط, بحيث أنه لم يجد عليه خطئا. 


أقول: والحق أن عمر بشر يخطئ, غير أن أخطاءه تكاد تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة, وإنها لأخطاء عظيم رباني, وربما أخطأ المتفوقون لشدة حرصهم الدائم على نيل مرتبة الشرف العظمى. ثم هي وإن لم تجلب نفعا فلم تضر. 

وقد أحصيتُ لعمر – ولا أقول عليه - ستة أخطاء من هذا الطراز هي:

التجسس على شارب الخمر.

عزله لخالد ابن الوليد, وقد ندم على ذلك بعد وفاة خالد.

عدم النص صراحة على خليفته كما فعل أبو بكر.

الزج باسم عثمان ابن عفان في قائمة مرشحي الخلافة.

عدم عزل معاوية ابن أبي سفيان لمّا أعطى لأبيه 10000 دينار.

جلد ابنه عبد الرحمن مرتين لكبيرة واحدة.

تولية المتعجل قيادة الجيش مما تسبب في هزيمة موقعة الجسر.

وسيأتي بيان كل منها في حينه.

وكفى بالمرء كمالا أن تُحصى أخطاؤه.


عبقرية عمر

يبدأ العقاد حديثه بحديث النبي عن عمر "لم أر عبقريا يفري فَرِيَّهُ " أي يصنع صنيعه. ويستدل من ذلك على عظمة النبي من حيث أنه أولا شجع عبقرية عمر وزكّاها ونمّاها, وثانيا أنه عرف كيف يوظف هذه العبقرية في المكان والزمان المناسبين دائما. فعمر إذاً صناعة إسلامية. فلولا الإسلام لكان أطمح ما يطمح إليه عمر أن يكون شيخ قبيلته. ولكنه بالإسلام صار أميرا للمؤمنين وحاكما لجزيرة العرب والعراق والشام ومصر! لذلك سأل النبي الله أن يعز به الإسلام فكان.

وكان من جميل أثر الإسلام على عمر أنه نئى بجميل خصاله عن استغلالها في غلبة وقد كان قادرا على ذلك. وقد نبتت خصال عمر في الجاهلية, غير أنها بالإسلام عظم استثمارُها وأفلح توجيهُها. 


أبو بكر وعمر عند النبي

ضرب النبي مثلا للين أبي بكر, إبراهيم وعيسى. وضرب مثلا لشدة عمر, نوح وموسى. ويقول العقاد أن هذا ليس مفاضلة بين الرجلين ولا هو ترجيح في الكفاءة بقدر ما هو حسن توظيف لإمكانات كل منهما في الزمان والمكان المناسبين. وعندما يختار النبي أبا بكر لخلافته, فإنما يكون قد جمع شدة عمر إلى لين أبي بكر فلا يفوت الإسلامَ خيرُ الاثنين.

ولا أحسب أنه قد غاب عن العقاد أفضلية أبي بكر من حيث المقام الإسلامي, فالأحاديث في ذلك كثيرة ومنها "... بهذا فضلكم أبي بكر". ويوم أن تصدق أبو بكر بكل ماله لغزوة تبوك بينما تصدق عمر بنصف ماله فقال: "لا أسابقك إلى شيء أبدا". أي لن أسابقك في خير بعد الآن, فلن يسبقك أحد.


موقف الصاحبين من حروب الردة

على غير المتوقع, جنح أبو بكر اللين إلى الحرب والشدة بينما جنح عمر الشديد إلى الاستتابة واللين. ويفسر العقاد ذلك بأن الرجل إذا ما تولى أمر الدولة فإنه لا يستسلم لأول عارض يعرض له, بل ربما خطّأ نفسه في استسلامه لطبعه سواء أكان لينا أو شدة. وأتى عمر بحججه وجاء أبو بكر بحججه وفكروا معا بصوت عالٍ. حتى إذا ما أصر الليِّنُ على القتال, وضح الحق لعمر وزال عنه اللبس واستقر العزم والتقى الصاحبان فكانت شدتيْن على المرتدين.

وهنا يبرز سؤال؛ ماذا لو لان أبو بكر مع لين عمر فلم تقع الحرب وتوسعت حركة الارتداد عن الإسلام؟

يُرحج العقاد أن شدة عمر كانت لتبرز ساعتها. ولست معه في ذلك, للحجج التي ساقها عمر وكلها تدعو إلى اللين. والعقاد نفسه يثبت لاحقا أن طبيعة عمر كانت تجعله يتمهل في قرارات الحرب, وقد عزل قائدا حربيا لعجلته على الحرب. ولكني أعتقد جازما أنه ما كان يصلح لأبي بكر إلا الشدة في هذا الموقف. فالموقف موقف منع الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام الخمس, والأهم أن للنبي بالقضية علاقة, وكل ما له بالنبي علاقة, فليس لأبي بكر فيه خيار إلا إمضاءه على الوجه الذي ارتضاه النبي. كان ذلك من سمات شخصية أبي بكر. فهو الذي أصر على خروج جيش أسامة على أن يبقى القائد كما ارتضى النبي, وكان كبار الصحابة بل وأسامه نفسه, قد اقترحوا تغيير القيادة بعد وفاة النبي بقائد من كبار وسبّاق الصحابة. لذلك نجده هنا يقول: "والله يا أيها الناس لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه". فالأمر متعلق بنحوٍ كان يقرّه النبي, فلا حيدة عنه.

وكما يوضِّح العقادُ في باب "مفتاح شخصية عمر", كان عمر يراجع من منطلق الإحساس بالتبعة واستعدادا منه لحمل أمانتها. فإذا ما أدى واجب المراجعة, لم يبق بعد ذلك إلا الطاعة والانصياع.


شدة عمر في الميزان

كان عمر يعتز بشدته عهد النبي وعهد أبي بكر, ويقول أنها كانت سيفا للإسلام يُغمد أو يُدع بأمرهما. أما في عهده فقد تضاعفت هذه الشدة, ولكن فقط على أهل الظلم والتعدي. ويلج العقاد إلى سقيفة بني ساعدة ليحضر ملابسات البيعة على الخلافة بعد النبي. فيلاحظ أن جلال الموقف وخطورته قد أوجبا على عمر التؤدة والدبلوماسية فنراه يخشى اندفاع وشدة أبي بكر. بينما نجد أبا بكر صارما يطلب من عمر السكوت فيتكلم فيكون أحلم وأوقر.

وقد تنبأ النبي بخلافة قصيرة لأبي بكر يليها خلافة طويلة عظيمة الثمار لعمر فقال ص: "أُريتُ في المنام أني أنزعُ بدلو بكرةٍ عن قُليْب. فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا والله يغفر له. ثم جاء عمر ابن الخطاب فاستحالت غَرْبا فلم أر عبقريا يفري فَرِيَّهُ حتى رَوِيَ الناس وضربوا بعطن". حديث صحيح رواه أحمد وغيره.

 فوضع أبا بكر في موضعه وهو يلي الإسلام والخطر من داخل جزيرة العرب, ووضع عمر في موضعه والخطر يهدد الإسلام من خارجه, حتى إنه ليُقتل على يد فارسي مجوسي من موالي البلاد المفتوحة.

وعمر الشديد يكره ضعف الرجال لاسيما الولاة منهم. فلما أشاروا عليه باستخلاف ابنه عبد الله وقد عجز عن تطليق امرأته, قال: "ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟" (أورده العقاد في فصل آخر وأرى وجوب إيراده هنا)

وينهي العقاد الفصل بتعريف العبقرية بأنها التفرد والسبق والابتكار وكلها كانت في عمر على نحوٍ فريد


امتياز عمر

يفرق العقاد بين العمل والاستعداد للعمل. فقد تكون مستعدا لعمل ما ولكن تحول العقبات بينك وبين تنفيذه. غير أن عمر كان ممتازا في الأمرين فقد كان قادرا دوما على تذليل العقبات وإخضاعها لإرادته. وأول ما مميزه المهابة حتى في حضرة النبي. 


هيبة عمر

أذن النبي يوما لجارية أن تفي بنذرها لَتضربن بدفِّها إن رد الله النبي سالما, فأذن لها. فدخل أبو بكر وهي تضرب. ثم دخل علي وهي تضرب والصحابة مجتمعون. فما هو إلا أن دخل عمر فوجمت الجارية وأسرعت إلى دفها تخفيه. فقال النبي : "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر".

أقول: والعجيب أن عمر كان يحب ضرب الدفوف وإيقاع أوزان الأشعار. فلمَ هابته الجارية؟ أظن أنها هابته لغيرته على مجلس النبي أن يضرب فيه بالدف فخشيت أن يعنفها لذلك. ولاحظ كيف استثمر النبي هيبته ونمّاها لِما يعلمه من جدواها قابل الأيام.

وروت السيدة عائشة أنها طبخت للنبي حريرة, ودعت سودة أن تأكل منها فأبت. فعزمت عليها لتأكلنّ أو لتلطخنّ وجهها, فلم تأكل. فلطخت وجهها بالحريرة فضحك النبي وهو يعطي الحريرة لسودة قائلا: "لطخي أنت وجهها ففعلت". ومر عمر فدعاه النبي ظانا أنه سيدخل, فهمس لهما: "قوما فاغسلا وجهيكما". فكانت السيدة عائشة تقول: "فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله إياه". حديث حسن أسنده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.


أقول: وربما لم تثبت صحة هذه الرواية ولكن لا دخان بدون نار. فهيبة عمر نار لا تعدم دخانا.

ومن تلك الهيبة أن السيدة عائشة كانت تهاب عمر حيا وميتا. قالت: "مازلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي – أرتدي ما ترتديه المرأة في بيتها – وأقول: إنما زوجي وأبي. حتى دفن عمر, فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بُنيت بيني وبين القبور جدارا فتفضلت بعد".

ومنها أنه كان يمشي يوما وخلفه عدد من الصحابة إذ بدا له فالتفت, فلم يبق منهم أحد إلا وحبل رجليه ساقط – أي سابت مفاصلُهم -. وتنحنح عمر والحلاق يقص له شعره فرُوِّع الحلاق فأمر له عمر بأربعين درهما لما أصابه.

وهي هيبة من قوة النفس أولا ثم من قوة الجسد. فقد كان طويلا بائن الطول يُرى ماشيا كأنه راكب. جسيما صلبا يصرع الأقوياء.


فراسة عمر

يقول العالم الإيطالي لومبروزو أن للعبقري عدة علامات. وقد تحصّل عليها بعد الكثير من التجارب والاستقصاءات. ومعظم هذه العلامات في عمر ومنها فراسته وفرط حسه.

فكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع لله. وأثَّر البكاء في صفحتي وجهه حتى كان يُشاهد فيهما خطان أسودان.

وسقاه غلامه يوما لبنا فأنكره وسأله: ويحك من أين هذا اللبن؟ فقال الغلام: "إن الناقة انفلت عليها ولدها فشرب لبنها, فحلبت لك ناقة من مال الله". فمَن مِن أهل البادية يفرّق بين لبن ولبن والمناخ والمرعى واحد؟

مر بهم رجل فقال لما رآه: "أحسبه كان كاهنهم في الجاهليه". فكان.

وقدم عمير ابن وهب الجمحي المدينة شاحذا سيفه سما يريد قتل النبي ثأرا لهزيمتهم في بدر. فلما رآه عمر قال: "ما جاء إلا لشر". وهذه القصة في كتب السيرة انتهت بإسلام عمير وحَسُنَ إسلامه واستأذن النبي أن يعود إلى مكة فينكل بالمشركين كما كان ينكل بالمسلمين, فأذن له.

كان عمر يخطب بالمدينة فقطع خطبته ونادى: يا سارية ابن حصن, الجبل الجبل. ومن استرعى الذئب ظلم. فلما سئل في ذلك قال: "وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم. وأنهم يمرون بجبل. فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا, وإن جاوزوه هلكوا". وجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوت عمر يقول: "يا سارية ابن حصن الجبل الجبل, فعدلنا إليه ففتح الله علينا".

وهذا ما يسمى اليوم بعلم Telepathy أو المكاشفة عن بعد. 

ويقول العقاد أن من العلماء الملحدين من مارس التليباثي, فلا العقل يمنعها ولا العلم ينفيها. أقول: ويقبلها المسلم ككرامة من كرامات أولياء الله الصالحين.


صفات عمر

 العدل

استمد عمر عدله من روافد شتى كالوراثة والطبع وعِبَر الأيام ثم تعاليم دينه. ثم سخر عدله لغاية واحدة وهي إعزاز دين الله والتمكين له في الأرض.

وغاية عدل عمر هو ما فشل ويفشل فيه كل حاكم إلى يوم القيامه, وهو المساواة بين ابنائه وسائر الرعية. فانظر إلى التوريث والمحاباة, والتي سرعان ما ظهرت بعده في عهد عثمان ابن عفان. ولا حاجة بعد ذلك إلى مزيد حديث عن عدله.

وفي هذا السياق ينفي العقاد المبالغة في قصة إقامة عمر حد شرب الخمر على ابنه عبد الرحمن. فينفي أن يكون قد جلد ولده حتى مات واستمر في الجلد وهو ميت ليستوفي الحد. ونحن بالتأكيد معه في ذلك, فما عمر بهذا الأرعن الظالم الجاهل لفقه الحدود.

فكل ما حدث أن عبد الرحمن ابن عمر ورفيق له قد شربا بمصر شرابا لم يحسباه مسكرا فسكرا. فذهبا إلى عمرو ابن العاص ليقيم عليهما الحد فتلكأ هنيهة عسى أن ينصرفا. ثم أقام عليهما الحد لمّا رأى إصرار عبد الرحمن. فلما بلغ الأمر عمر أرسل لعمرو آمرا بإرسال ولده. فجاء عبد الرحمن لا يقوى على الوقوف من وعثاء السفر, فقال له عبد الرحمن ابن عوف: "يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة". فلم يلتفت له فجلده. ثم مرض عبد الرحمن لاحقا فمات.

ثم ذكر العقاد عدة قصص تشهد لعمر بالرفق عند إقامة الحدود والتأني فيها. ومنها إسقاط حد السرقة عام الرمادة وإسقاط حد الزنى عن المقهورات.

فالذي أراه والله أعلم أن عبد الرحمن قد سكر خطئا, وفي الحديث الصحيح أن الله رفع عنا الخطأ والنسيان وما استُكرهنا عليه, فهل يحضُرُ هذا الحديثُ عبدَ الرحمن ابن عوف ويغيب عن مثل عمر؟. ولكل بلد مشروباتها التي قد لا تُعهد في غيرها. فهناك بلاد تشتهر بعصير القصب أو الخروب, وعندنا في أسوان تشتهر مشروبات الكركديه والدوم, وفي السودان يوجد مشروب الجونجليز والحلو مر. فربما أراد عبد الرحمن ابن عمر أن يُجرِّب مذاقَ مشروب مصري جديد لم يعهده, فسكر منه. 

ثم هو أقيم عليه الحد, فلا ترتاح نفسي إلى إقامة الحد عليه مرتين لمجرد نفي محاباة أمير المؤمنين لابنه. وقد استغرب العقاد الجلد حتى الموت وجلد الميت, ولم يستغرب إقامة الحد مرتين لنفس الكبيرة وقد أنكره عبد الرحمن ابن عوف. هذا إن كان عمر قد جلده الثانية حقا.

ثم يدفع العقاد عن عمر شبهة القسوة فيما تمخض عن عدله. فعمر رحيم, ولا تعارض بين العدل والرحمة. وبرر العقاد هذه القسوة بأنه الواجب التي حتم ذلك. لأن الإنسان القاسي بطبعه لا يحتاج إلى واجب ليقسو, فهو يقسو في كل أحواله, بل يحتاج إلى واجبات لكفه عن القسوة.


الرحمة

يقول العقاد أن رحمة عمر هي أول ما قربّه من الإسلام. فلولا رحمته ما أسلم. وأن أول ما استدر هذه الرحمة, انكسار امرأتين. الأولى هي المراة الشاكية, التي كانت ضمن وفد المهاجرين الأوائل إلى الحبشة فرارا من تعذيب قريش للمسلمين. فلما تهيأ المسلمون للخروج, أقبل عليهم عمر ابن الخطاب حتى وقف على أم عبد الله بنت أبي حنتمة وقد ذهب زوجها عامر في حاجةٍ له فقال لها:

إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟

نعم والله لنخرجنّ في أرض الله, آذيتمونا وقهرتمونا, حتى يجعل الله لنا مخرجا.

صحبكم الله. 

ورأت أم عبد الله لعمرَ رقةً لم تكن تعهدها فيه, ثم انصرف عمر محزونا, فجاء عامر بحاجته فابتدرته زوجته:

يا أبا عبد الله, لو رأيت عمرا آنفا ورقته وحزنه علينا.

أطمعتِ في إسلامه؟

نعم والله.

فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.

ولكنه أسلم وخاب ظن عامر فليس أسرع من المرأة في لمح جانب الرقة عند الرجل.

والثانية هي المرأة الدامية؛ أخته فاطمة. خرج عمر ابن الخطاب يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ص في بيتٍ عند الصفا ومعه حمزة وأبو بكر وعلي في رجال من المسلمين, فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال له:

أين تريد يا عمر؟

أريد محمدا, هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها فأقتله.

والله لقد غرَّتك نفسُك يا عمر, أترى بني عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

وأي أهل بيتي؟

خِتنك وابن عمك سعيد ابن زيد وأختك فاطمة, فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما.

فرجع عمر عامدا إلى أخته وخِتنه وعندهما خباب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة "طه" يُقرأهما إياها, فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في بعض البيت, وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها, وكان عمر قد سمع حين دنا من البيت قراءة خباب, فلما دخل قال متجهما:

ما هذه الهينمة التي سمعت؟

وجعل يتلفت في جنبات البيت, فقال له سعيد:

ما سمعت شيئا.

بلي والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.

وهمّ بسعيد فبطش به, فقامت إليه فاطمة تكفّه عن زوجها فضربها فشجها, فصاحت في وجهه:

نعم, قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله, فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى عمر ما بأخته من الدماء, ندم وارعوى وقال:

أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤن آنفا انظر ما هذا الذي جاء به محمد.

إنا نخشاك عليها.

لا تخافي, واللات لأردنّها إذا قرأتها.

يا أخي, إنك نَجَسٌ على شركك, وأنه لا يمسها إلا طاهر.

فقام عمر فاغتسل, فأعطته فاطمة الصحيفة وقد طمِعت في إسلامه. وفيها: " طه , مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى , إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى , تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى , الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى , لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى , وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى , اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ". سورة طه.

فلما قرأ صدرا منها هدأ روعه وقال:

ما أحسن هذا الكلام وأكرم. ينبغي لمن يقول هذا ألا يُعبد معه غيره. دلوني على محمد.

فلما سمع ذلك خباب خرج مستبشرا يقول:

يا عمر, والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه, فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو عمر ابن الخطاب", فاللهَ اللهَ يا عمر.

فدُلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.


يقول العقاد أن بطش عمر لا يظهر إلا بالبطش, والقتال لا يكون إلا لقتال, فما داعي البطش والقتال مع امرأتين منكسرتين؟ فانزوى البطش والقتال ليحل محلها الندم والخشوع. أقول: وشئ آخر أُفسح له المجال لما انزوى البطش والقتال, ألا وهو الاستعداد لمراجعة النفس. فالبطش والقتال يصاحبهما غضب يطمس العقل فيشل التفكير, أما ولا غضب فالعقل مهيأٌ لمراجعة أفكاره لاسيما عندما يكون في مواجهة عقيدة القوية.

ويلتمس العقاد – ونحن معه – العذر لعمر في هياج غضبه من الدين الجديد. وهو هياج لم يطل. لأنه – وهو الغيور – غار على دين أبائه وعلى ما كان يعتقد أنه الحق. فلما تبين له الحق الإلهي, زهق معه كل باطل فأسلم. غاية ما هنالك أن عمر انتقل من إيمان إلى إيمان. انتقل من إيمان الجاهلية العقيم الذي لا طائل منه, إلى إيمان الإسلام الذى أتي بأطيب الثمرات.

ولأن الرحمة مشتقة من الرحم, يستدل العقاد على رحمة عمر بحبه الجارف لأبيه – رغم قسوته عليه - وأخيه زيد. غير أنه سرعان ما يستدرك ويقول أن رحمة عمر لم تقتصر على الرحم, وإنما تعدت ذلك لتشمل كل الناس لأنها أصيلة في طبعه. ثم يسرد العقاد قصتين ليستدل بهما على رحمة عمر وهما قصتان أبطالهما من الأطفال.

قدمت رفقةٌ من التجار فنزلوا المصلى, فذهب عمر ومعه عبد الرحمن ابن عوف يحرساهم من السرق, ثم باتا يصليان ويحرسان. فسمع بكاء صبي, فتوجه نحو أمه قائلا: 

اتقي الله وأحسني إلى صبيك. 

ثم عاد الصبي يبكي فعاد عمر إلى أمه بذات القول مرة أخرى, ثم سمع بكاءه آخر الليل فقال لأمه:

 ويحك إني لأراك أم سوء. ما لي أرى ابنك لا يقر؟

 فقالت له ولا تعرفه:

 يا عبد الله, قد أضجرتني منذ الليلة, أني أُرْبِعُهُ على الفطام. 

ولم؟

لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم

فلما علم أنها فطمته دون سن الفطام لينال عطاء المفطوم, أمر بفرض لكل مولود كي لا تعجل النساء في الفطام.

ويخلص العقاد من هذه القصة إلى أن بكاء طفل أزعجه ونغّص عليه ليله. وهذا صحيح. فلو لم يكن الخليفة لسعى نفس المسعى رحمة بالطفل. ولكني أضيفُ إلى رحمته عظمَ شعورة بالتبعة, والذي جعله يخشى أن يسأله الله عن بغلة عثرت في العراق لِمَ لَمْ يسو لها الطريق. ولكن العقاد يستبعد الشعور بالتبعة دافعا مع الرحمة, لأنه يعتبرها من ثمار الرحمة, وأنه لا يشعر بالتبعة هكذا إلا رحيم. ولعله أصاب؛ فكم من حاكم لم يتمخض شعورُه بالتبعة إلا عن نتائج ومخرجات يبتغي بها مجدا شخصيا أو استدامة مُلك.

ونخلص إلى نفس النتيجة من القصة الثانية وهي قصة الصبية الجياع.

فقد خرج ومعه أسلم يتفقد الرعية فإذا بنار توقد من بعيد. فظن أنهم ركبان قصّر بهم الليل والبرد فانطلق إليهم فإذا بامرأة تغلي ماءً في قدر تسكّتُ به طفلين يتضورون جوعا. فقال لها:

ما بالكم؟

قصر بنا الليل والبرد.

وما بال الصبية يتضاغون؟

الجوع.

وأي شيء في هذه القدر؟

ماء أسكتهم به حتى يناموا....والله بيننا وبين عمر.

أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟

يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟

فقال لأسلم:

انطلق بنا.

فخرجا يهرولان حتى أتيا دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكبّة من شحم وقال لأسلم:

احمله عليَّ

أنا أحمل عنك.

أنت تحمل وزري يوم القيامة؟

فحمله عليه فانطلقا يهرولان حتى ألقى الدقيق عندها. وأخرج من الدقيق شيئا فقال للمرأة:

ذرّي عليَّ وأنا أُحِرُّ لك. (أي أصنع لكم حريرة).

وجعل ينفخ تحت القدر فخرج الدخان من خلال لحيته الكثيفة حتى طبخ لهم وقال لها:

أطعميهم وأنا أسطح لهم. (أي أبرده).

ولم يزل حتى شبعوا وهي تقول له:

جزاك الله خيرا, كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين.


وهنا ينفي العقاد أن تكون تقوى الله دافعا آخر مع الرحمة, والذي يدل عليه قول عمر: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ لأنه لا يتق الله إلا رحيم. 

ومن ذلك رحمته بغير المسلمين. فقد رأى شيخا يهوديا يسأل الناس, فأمر له ولأقرانه بعطاء من بيت المال قائلا: "والله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم". ومن ذلك رحمته بالحيوان, فروى المسيِّب ابن دارم أنه رآه يضرب رجلا ويلاحقه بالزجر لأنه يُحمِّل جمله ما لا يطيق. وكان يدخل يده في عقرة البعير الأدبر ليداويه مخافة أن يسأله الله عنه. 


الغَيْرة

قال النبي: "إن الله غيور يجب الغيور, وإن عمر غيور". لم أستدل على سنده بهذا اللفظ. 

فهو أشار على النبي بحجاب أمهات المؤمنين.  وكان النبي يراعي هذه الغيرة وينمّيها كما كان ينمّي سائر صفات عمر وكأنه يُعدّه لخلافة صعبة. قال النبي: "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة, فإذا امرأة تتضوأ إلى جانب قصر. . فقلت: لمن هذا القصر؟ قيل: لعمر. فذكرت غيرته فوليت مدبرا". فبكى عمر وقال: "أمنك أغار يا رسول الله؟" رواه البخاري وغيره.

 

ولا يُفهم من ذلك أن غيرته كانت قاصرة على النساء. بل كانت غيرة متعدية إلى كل حرم وحوزة. 

وهو لم يغار "من" بل كان يغار "على". فلم تكن لديه أحقاد ليغار من أحد لنعمة حباها الله إياه. وشئ جميل أدركه العقاد, وهو أن غيرة عمر كانت دوما مدعومة بالقدرة على حمايه ما يغار عليه. وقلما تجد ذلك في كل غيور.


الفطنة

اتهم المستشرقون عمر بمحدودية التفكير وعدم الفطنة, لا لشيء إلا لأنه كان يقيس كل الأمور بمقياس واحد, وهو مقياس العدل المدعوم بالقدرة على إمضائه. ينفي عنه العقاد ذلك, ويقول أنه ما كان يجب أن يكون عمر عالما بحّاثة أو فيلسوفا ليمتدح المستشرقون فطنته, فلم نكن بحاجة إلى أفلاطون آخر أو إقليدس ثانيا أو فارادى للزمن القديم. ففطنة عمر فطنة مَن خبر طباع الناس وتقلبات النفس البشرية, ومثل هذا لا يُخدع, كما قال هو عن نفسه: "لست بالخِبِّ ولكن الخِبَّ لا يخدعني". ويُنسب إليه: "احترسوا من الناس بسوء الظن". ويقول: "الذي لا يعرف الشر أحرى أن يقع فيه".

وأزيد: جاءه رجل قد أصيبت إحدى عينيه يشتكي خصما له. فطلب عمر أن يرى الخصم ويسمع منه عسى أن يكون قد أصيبت كلتا عينيه. تلك فطنة الحاكم القاضي معا التي تجعل ذا الشبهة يفكر ألف مرة قبل أن يقرر الوقوف أمام عمر.

كيف يكون محدود التفكير من كان يشاور الكبار والصغار والرجال والنساء؟ ومن قال: "أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه".

ثم يقول العقاد أن توخي الحذر مع الناس لم يكن وليد طبع سيء في عمر, وإنما كان وليد الدراية بطباع الناس وتقلبات أنفسهم. وسنورد هنا ثلاث قصص أوردها العقاد في فصول متفرقة, لأن كلها يكشف لنا أن الدهاء ما كان ليمر على عمر, وأنه قابل الدهاء بدهاء مثله ولكنه دهاء محمود.


مع المغيره والي العراق

هم عمر بعزل المغيرة ليولي جبير ابن مطعم وأوصاه بكتمان الخبر. فأحس المغيرة فطلب من أحد جلسائه أن يدس زوجته المشهورة بتحسس الأخبار حتى سميت "لقاطة الحصى", لتستطلع الخبر. فمازالت لقاطة الحصى بامرأة جبير حتى أطلعتها على السر. فعلم المغيرة فجاء عمر قائلا: "بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرا". فقال له عمر لما رأى وقوفه على السر: "كأني بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت". فكان كأنما رأى وسمع. ثم أبقاه على العراق.


مع أبي سفيان

عاد أبو سفيان من الشام حيث ابنه معاوية والٍ عليها فوقع في خلد عمر أن ابنه وزده بمال. فلما جاء أبو سفيان مسلما قال له عمر: "أجزنا". أي أنقدنا المال. فقال له أبو سفيان: "ما أصبنا شيئا فنجيزك". فنزع عمر خاتم أبي سفيان ودفع به إلى رسول وأمره أن يأتي هند زوجة أبي سفيان فيقول لها باسم زوجها: "انظري الخُرجين اللذين جئتُ بها فابعثيهما". فما لبث أن عاد الرسول بخرجين فيهما 10000 عشرة آلاف درهم فطرحهم عمر في بيت المال. 

أقول: وكنا نتوقع من عمر موقفا أكثر صرامة مع معاوية, وهو الذي كان من أسباب عزله لخالد ابن الوليد, إساءتُهُ لتصريف المال.


ثم يقول العقاد أن عمر فاق في القدرة الذهنية حكام بني البشر, فقد ساس شعوبا مختلفة الطباع والعادات كالفرس والقبط والشوام. ونصّب ولاةً وسيَّر جيوشا وأقام نُظما وراقب الرعية والولاة, ونجح في كل ذلك نجاحا منقطع النظير.  

فالفكر المحدود هنا هو فكر المستشرقين وليس فكر عمر. لأنهم لم يفرقوا بين من يلزم اتجاها واحدا لقصورٍ فيه ومن يلزمه لأنه قادر على اختراق عقباته وتذليل صعابه, كقدرته على إخضاع الملوك وتقويم اعوجاج الولاة وعزل كبار القادة كخالد ابن الوليد وتلجيم الوجهاء كأبي سفيان وجبلة ابن الأيهم. فلم يكن عمر يخاف عاقبة العدل والمساواة, ولم يكن من الضعف بحيث يلجأ إلى حيلة في ذلك.

ثم يسرد العقاد قصة طريفة توضح مدى انصياع خالد ابن الوليد لعمر. فلما عزل عمر خالدا, كتب إلى أبي عبيدة ابن الجراح أن يقاسم خالدا ماله نصفين. فقاسمه حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة: "إن هذا مما لا يصلح قسمته". فأبى خالد إلا النزول عن أمر عمر وأعطاه إحدى نعليه.

أقول: وخالد ليس كغيره فهو سيف الله المسلول الذي كان من الممكن أن يتزعم, لعزله, حركةَ عصيان مسلحة. وقد كتب العقاد فيه "عبقرية خالد".

ومن الأخبار التي يستشهد بها المستشرقون على محدودية تفكير عمر قصته مع جبلة ابن الأيهم أمير أيلة وهي مدينة بالأردن. وخلاصتها أن رجلا من عامة المسلمين وطئ عباءة جبلة أمير أيلة أثناء طوافه بالبيت, فصفعه جبلة فاقتص عمر للرجل من الأمير. 

فهل كان المستشرقون يفضلون إرضاء الأمير لاستبقائه وقومه في الإسلام؟ ثم الاحتيال على الشاكي لمواساته؟ وهل بهذا يكون عمر عندهم فطنا وداهية؟

إن الحاكم الذي يوافق رأي هؤلاء المستشرقين, هو مَن يعوزه السخط على الظلم وحب العدل والقدرة على إنفاذه, وكل ذلك كان لعمر منه الحظ الوفير.

ثم ماذا يكسب الإسلام لو احتفظ بجبلة ابن الأيهم وأتباعه, وفقد سمعته دينا للعدل والمساواة, يثق أهله بأحكامه ويطمئن الضعفاء إلى كنفه؟ 

ثم يختم العقاد هذه الفقرة بلمحة جميلة؛ يقول إن النظرة الأولى في خُلُق عمر حسنة, فإذا ما بحثنا ونظرنا نظرة ثانية, جاءت أحسن من الأولى.


الإيمان الوثيق

كانت قوة إيمان عمر هي المسيطر الأكبر على كل أخلاقه, بل على ما هو أشد من الفكر والأخلاق والعقائد, ألا وهو دوافع الغريزة التي يصعب السيطرة عليها. ضرب العقاد مثلا للفكر بالسفينة وللأخلاق بالنهر وكلاهما يمكن السيطرة عليه, السفينة بالشراع والربّان, والنهر بالقناطر والسدود. ولكن ماذا عن السيل العرم؟ وهو ما ضربه العقاد مثلا لدوافع الغريزة.

ومن أمثله السيل العرم, حال عمر يوم وفاة النبي. فقد كان الخبر كالطوفان حتى أن عمر أنكر أن يُنعى النبي إليه, وأبى أن يزعم صوتٌ أن محمدا قد مات. ثم أقبل أبو بكر لما سمع الخبر فنزل عن فرسه فمشى إلى بيت النبي وئيدا صامتا - كالجبل الأشم - لا يكلم أحدا, فتيمم النبي وهو مُغشّى بثوبه, فكشف عن وجهه فقبله وبكى وقال: "بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا". فلما رأى صولة عمر, أقبل على المسلمين وكان أبو بكر -  في زعمي, في هذا الموقف العصيب – قدرا من أقدار الله, فقال كلام الله: "أما بعد, فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الحق "وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلتْ من قبله الرسلُ, أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم, ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَ اللهَ شيئا وسيجزي اللهُ الشاكرين"". لله در أبي بكر فبهذا فَضَلَ الأمة.

فأهوى عمر إلى الأرض وأناب وكأنه يسمع الآية لأول مرة.

فهنا قَهَرَ السابحُ القوي للسيلَ العرم. إنه انتصار كأسرع ما يكون الانتصار. فهو الإيمان ضابط كل شيء في نفسه. وفرق بين الإيمان القوي الذي يردع النفس القوية والإيمان الهزيل الذي يردع النفس الهزيلة. 


عمر ومتع الدنيا

لم يكن إعراض عمر عن متع الدنيا لضعف الحيوية الجسدية فيه, فهي حيويات متعددة, وقد كان عمر قويا في حيوية الروح والعقل والخُلُق والذوق. والإعراض عن متع الدنيا قوةُ في حد ذاته, فهو أعرض إعراض القادر. فمن منا يقدر قدرته تلك؟

أقول: والإنسان القوي في حيوية الجسد ويستمتع باللذات المباحة, إنما هو تجربة تأخذ ولا تعطي. أخذ من الدنيا متاعها فماذا أعطاها في المقابل؟ أما الإنسان القوي في حيوية الروح والعقل والخُلُق والذوق, فهو تجربة تثري الحياة الإنسانية بالعطاء الإنساني. وها نحن بعد 1440 عام بصدد تجربة عمر الإنسانية ندرس ونحلل ونتعلم.


ويخلص العقاد في صفات عمر إلى أن كل صفة من صفاته قد بلغت منتهاها البشري, بحيث تكفي الواحدة أن يتميز بها عظيم من الناس, فيقال فلان عادل أو فلان رحيم أو فلان غيور أو فلان فطن أو فلان وثيق الإيمان. ولكنها اجتمعت كلها في عمر قوةً ورسوخا, اجتمعت وتراكبت كما تتركب أجزاء الدواء ليؤدي بعد ذلك نفعا لا يؤديه غيره.


مفتاح شخصية عمر

 مفتاح الشخصية هو الأداة التي تفتح لنا بابها فنفهمها. وهو كمفتاح البيت؛ فرب بيت شامخ بابه مكين ومفتاحه صغير, ورب كوخ بابه مزعزع يَحار فيه كل مفتاح. وشخصية عمر من النوع الأول ومفتاحها كما يقول العقاد هو "الجندية".

فكل صفات الجندية التي خلص إليها العلم الحديث موجودة في عمر, كالشجاعة والحزم والصراحة والخشونة والنخوة والغيرة على الشرف والنجدة والنظام والطاعة وتقدير الواجب والإيمان بالحق وحب الإنجاز. وكل هذه الخصال أصيلة في عمر غير مكتسبة. فلربما اكتسب الجندي الباسل النظام مثلا اكتسابا, ولم يكن إصيلا فيه قبل التحاقه بالجندية. لكنه عند عمر فطرة فُطِر عليها فانظر إليه وهو:

يسوي الصفوف في الصلاة بل ويوكل بذلك رجلا.

يمشي في السوق فيكسر ما برز من الدكاكين.

يخفق التجار بالدرة إذا اجتمعوا على الطعام في عرض الطريق وقطعوا طريق السابلة.

يأمر بمسايل المياه وسقائف الإبل والغنم فتُبعد عن طريق الناس.

يرعى المراتب فينزل درجة من درجات المنبر إجلالا للنبي ومن بعده أبي بكر.


ويستشهد العقاد على روعة دولاب النظام عند عمر أنه دوَّن الدواوين وأحصى كل نفس في الدولة, وعيَّن لكلٍ حصته من بيت المال, وما من مجاهد إلا عُرفت رتبته ومعاشه. وعشَّر الجنود عشرات, وقسمهم إلى كتائب.

أقول: ولكن هذا كان مما تعلمه العرب الفاتحون من شؤون الأمم المفتوحة, فقد كانوا أكثر تقدما من العرب, كالفرس والروم والفراعنة. فما كان هذا النظام معروفا بهذا النحو عند العرب في الجزيرة العربية, ولكن مع الفتوحات, تلاقحت الحضارات وانصهرت وتفاعلت فتعلمنا منهم الكثير, وبنينا عليه وطوَّرناه.  


ومن دلائل الجندية في عمر:

قوله: إياكم والسمنة فإنها عُقٍلة.

قوله: إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة.

قوله: من كثر ضحكه قلت هيبته, ومن كثر سقطه قل ورعه.

كان يأمر بتعلُّم الرماية والسباحة وركوب الخيل.

سرعة البديهة والتصرف السريع. 

والقضاء ليس من لوازم الجندية, ولكن كان لعمر فيه مثل القضاء العسكري الناجز اليوم, يمنع الضرر من أقرب الطرق. ومن ذلك عدة قصص:

هتفت امرأةٌ باسم نصر ابن حجاج وكان جميلا. فاستدعاه عمر فإذا هو أجمل الناس, فأمره أن يجمَّ شعره فازداد جمالا لما ظهر جبينه, فأمره أن يعتم فزادته العمامة زينة وغواية. فأمر بإرساله في تجارة إلى البصرة تشغله عن النساء وتنسي النساء إياه.


تقييم حكم عمر

أصدر عمر حكما عسكريا باتا قاطعا فيه جور على حق نصر ابن حجاج في الإقامة حيث يشاء. وبالنظر إلى سياسات الحكومات اليوم, نجد أن لديها قوانين بالإقامة الجبرية والنفي والمراقبة بما يكفل الصالح العام. وهذا كان دافع عمر؛ ألا وهو تحقيق مصلحة للمجتمع, ومصلحة الكجتمع تسبق مصلحة الفرد.

كان سهيل ابن عمرو خطيبا مفوها قد سخَّر موهبته لحرب الإسلام. فلما أسره المسلمون في غزوة بدر, اقترح عمر على النبي ص نزع ثنيتي سهيل ابن عمر السفليين ليعجز عن الخطابة ضد الإسلام. وكان سهيل بليغا أعلم – أي مشقوق الشفة السفلى – فإذا نزعت ثنيتاه, عجز عن الكلام دونما حاجة لإجراء آخر.


تقييم حكم عمر

هذا أيضا حكم عسكري فيه من البديهة والتصرف السريع ما فيه. والحكم فيه مُثلة بعدو للإسلام قد صار أسيرا, وقد نهى الإسلام عن المثلة وأمر بالإحسان للأسرى. ولكن عمر نظر للفائدة التي تعود على الدعوة بكف سهيل عن الخطابة. إذ أن خطبة واحدة من سهيل كفيلة بإعراض قبيلة عن الإسلام. ولكن هنا تَفْصِلُ النبوة التي تعلم أن بلاغة سهيل ولسانه سيكونان للإسلام سيفا ودرعا يعصمان المسلمين من الزلل في موقفين عصيبين هما يوم وفاة النبي ص وعند حروب الردة. 


جندي وقائد

الذي فهمته من كلام العقاد أن عمر كان جنديا وقائدا في نفس الوقت؛ جنديا للحق عند الله عز وجل, وقائدا يهاب فيطاع من سائر الناس على مختلف مستوياتهم الاجتماعية. ولعل العقاد لذلك أورد قصة عمر مع أبي سفيان وهو من علية القوم. إذ شكا رجل من بني مخزوم أبا سفيان عند عمر لظلم لحق به. فلما عاين عمر سبب الشكوى علم صدق الشاكي, فدعا أبا سفيان وأمره برفع حجر من مكان إلى مكان آخر فتردد أبو سفيان وتكبر. فعلاه بالدرة قائلا: "خذه فضعه ها هنا فإنك – ما علمتُ – قديم الظلم". فنفّذ أبو سفيان أمر عمر ولو كان غير عمر ما فعل.

وكون عمر جنديا لله قانونه القرآن وقائده الأعلى هو النبي ص, فلا يمنع ذلك من مراجعة القائد الأعلى لأن الطاعة لا تمنع المراجعة ولكن تمنع التمرد. وقد راجع عمر النبي في أمور شتى فأخذ النبي ص برأيه في مسائل دون مسائل, فما كانت طاعته فيما خولف فيه بأقل من طاعته فيما وُوفق عليه. وكذلك كان مع أبي بكر.

ومن مراجعة عمر لنبي ص موقفه لما اشتد المرض على النبي ص, فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: "إن رسول الله غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا". ثم عاش النبي ص بعد ذلك أياما ولم يطلب الكتاب مجددا.

فكان عمر يراجع من منطلق الإحساس بالتبعة واستعدادا منه لحمل أمانتها. فإذا ما أدى واجب المراجعة, لم يبق بعد ذلك إلا الطاعة والانصياع.

غير أن عمر قد كسر قواعد المراجعة والطاعة في حالات لم يستطع فيها أن يملك نفسه, وتلك أيضا من طبيعة الجندي. فبعد انتصار المشركين في غزوة أحد, جاء أبو سفيان فوقف على المكان الذي احتمى به النبي ص فنادى: أفيكم محمد؟ فأصدر النبي أمرا: لا تجيبوه. فنادى أبو سفيان: أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم ابن الخطاب؟ كل مرة ثلاثا. فلما لم يسمع جوابا قال لقومه: "أما هؤلاء فقد كفيتموهم". فلم يتمالك عمر نفسه وعز عليه أن ينصرف الكافر فرحا بموت النبي ص وصاحبيه, فأحب أن يكدّر عليه فرحه فعصى أمر النبي وصاح: "كفرتَ يا عدو الله, ها هو ذا رسول الله, وأبو بكر وأنا أحياء".

لا شك أن هذه مخالفة ولكنها مخالفة إيجابية لم يلمه عليها النبي ص.

وبعد وفاة النبي ص, لم يكن أحدٌ من الصحابة أحرصَ على سنته من عمر. وكانت وصيته الرئيسية للولاة العمل بكتاب الله وسنة رسوله. إلا أنه مع ذلك كان يأخذ في الاعتبار العلة وراء السنة النبوية. وهذا ما لم يفعله أبو بكر الذي التزم السنة بحذافيرها, وهو ما يفسر سياسة أبي بكر تجاه قتال المرتدين وإنفاذ جيش أسامة. ولذلك خالف عمرُ أبا بكر في إقطاعه الأرض لعيينة ابن حصن والأقرع ابن حابس, فرأى أبو بكر أن هذا من سنة النبي ص, فلما ولي عمر قال لهما: "إن رسول الله كان يتألفكما على الإسلام وهو يومئذ ذليل. وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جَهدكما". 

أقول: والتفريق بين العلة والقرار من شيم أفذاذ القادة. فرُبَّ علةٍ واحدة أدَّت إلى قرارين مختلفين إذا ما تبدل الزمان والمكان. وفي رأيي أن الالتزام الحق بالسنة النبوية, يكمن في تحرِّي العلة لا محاكاة القرار. 

حتى في فكاهته, كان يضحكه ما يضحك الجندي. فلما بايع النبي ص النساء بعد فتح مكة جاءته هند بنت عتبة مبايعة, فأخذ النبي ص عليها البيعة حتى إذا ما قال لها: "ولا تقتلن أولادكن". قالت هند: "قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا". فضحك عمر حتى أستغرب وكان قليلا ما يستغرب في الضحك. فضحك عمر زهوا بنصرٍ تقر به أم قُتِل ابنها في بدر ثم تجيء اليوم مبايعة. وكلها معانٍ تستهوي الجنود.

وقد مزح عمر يوما مزحة كادت أن تقتل الشاعر الحطيئة رعبا. وكان الحطيئة يتكسب من هجائه ولا يسلم من هجاءه أحد. فدعاه عمر وأجلسه بين يديه وجاء بشفره ومثقب موهما إياه أنه سيقطع لسانه. فلم يشك الحطيئة أن لسانه مقطوع لا محالة, وتشفع له الحاضرون. ولكن عمر أطلقه بعد أن أخذ عليه عهدا لا يهجونّ أحدا, واشترى منه أعراض الناس بثلاثة آلاف درهم, فما هجا الحطيئة أحدا حتى مات عمر فعاد للهجاء.

وفي رأيي أن هذه ليست مزحة وإنما طريقة في التربية والتقويم. وهي تناسب طبع الجندي الصارم على كل حال.

ثم يذكر العقاد إن في عمر من أهواء الجنود حب سماع الغناء وصخب ضرب الدفوف. والحق أني لا أرى علاقة بين الجندية وحب السماع. بل على العكس, ربما كان الجندي حال قيامه بمهام الجندية أبعد الناس عما يلهّي ويُطرب. فأبعد الناس عن طبيعة الجندية اليوم هم الملحنون والمطربون. أما الجندي إذا اختلى بنفسه فليس عليه جناح أن يمارس هواياته التي يحب, وهو في هذا يكون خالع لثوب الجندية مستسلم لنزعات النفس المباحة. 

ومن هذه النزعات أن عمر كان يحب الغناء جملة ويطيل الإصغاء إليه. فسمع صوت حاد وهم في الطريق إلى مكة, فمازال يسرع براحلته حتى دخل في القوم يسمع حتى مطلع الفجر. ثم قال للقوم: "إيهِ قد طلع الفجر اذكروا الله". ومن حبه لإيقاع الدفوف قوله لأصحاب عرس: "هلا حركوا غرابيلهم؟", أي دفوفهم. ودخل عليه عبد الرحمن ابن عوف فوجده مستلقيا مختليا بنفسه وإحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد:

وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ** قضى وطرا منها جميل ابن معمر

فلما رأى عبد الرحمن قال له: "يا أبا محمد, إنا إذا خلونا بأنفسنا قلنا كما يقول الناس".

وربما استهوى الجندي من أوزان الشعر وإيقاع الدفوف ذلك الإيقاع المنتظم الذي يناسب عقليته المنظّمة المرتّبة.

وقد أثرت طبيعة الجندية التي تقدس الشرف والبر بالوعد ولو كان إشارة باليد على سياسات عمر الخارجية, فأوجب على قادته وجنوده إذا نزلوا بلاد الأعاجم أن يقبلوا منهم أية إشارة أو نبأة تحمل على محمل العهد فينجزوا هذا العهد ولا ينكصوا فيه. 

فعمر جندي يريد أن يقف أمام الله وقد حضّر نفسه للحساب مصداق قول الحق جل وعلا: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُوا۟ كِتَـٰبِيَهْ. إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ" سورة الحاقة.


موقف عمر من أسرى بدر

كنتُ أنتظر أن يحللَ العقادُ موقفَ عمر من أسرى بدر, وهو موقفٌ من تلك التي وافق فيها الوحيُ ما ذهب إليه عمر. فلعلي آخذ من هذا الموقف إلى طبيعة الجندي عند عمر فأقول:

قال تعالى في شأن أسرى غزوة بدر:

"مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ" الأنفال 67

هذا موقف من تلك التي وافق فيها الوحيُ ما ذهب إليه عمر. وما ذهب عمر إلا إلى ما كانت تُمليه عليه طبيعة الجندية. فلا مجال للجندي في أول مواجهةٍ له مع ملة الكفر أن يَرضى بما هو دون النصر الساحق الماحق. فالانطباع الأول يدوم, وعمر يحب أن تُعطيَ أولُ مواجهةٍ مع ملة الكفر انطباعا عن دولة الإسلام الناشئة يظل عالقا بالأذهان. هذا هو الجندي العظيم. أما القائد العظيم ص فيأخذ في اعتباره ما هو أعمق أثرا؛ ينظر إلى الأسرى كسلاح استراتيجي يَفتدي به من يشاء فهي حرب دبلوماسية, وقد أسلم بالفعل عمير ابن وهب الجمحي لمّا قدم المدينة في فداء ابنه الأسير في بدر! وحرب أخلاقية تُعلي قيمة الوفاء لِما قاله النبي ص عن استعداده لإطلاق الأسرى لو سأله ذلك المطعم ابن عدي الذي أمَنه يوم دخل مكة عائدا من الطائف. ثم يُعَلِّمُ به أميي المسلمين, فهي حرب من نوع آخر؛ حرب حضارية ضد الأمية.

ولا يُفهم من سياق الآية أن النبي ص كان يريد عرض الدنيا! ولكن أراده فريقٌ من الصحابة لم يكن عمر من بينهم. 


لائحةٌ بأسماء المنافقين


أسرَّ النبيُ ص إلى كاتم سره حذيفة ابن اليمان بأسماء المنافقين, ولم يُطلع عليهم غيره. فإذا بعمر وحده من دون الصحابة, يختلي بحذيفة ويستحلفه بالله؛ أذكره النبي ص مع المنافقين؟ ومازال يلح عليه حتى أخبره أنه ليس منهم, ثم أقسم حذيفة ألا يخبر أحدا بعد عمر.

كنت أتحرق شوقا لمعرفة تحليل العقاد لسيكولوجية عمر في هذا الموقف. ما الذي جعله حريصا كل هذا الحرص لمعرفة ما إذا كان من المنافقين أم لا؟ ولماذا لم يفعلها من الصحابة غيره؟ ولئن قيل أن جميع الصحابة كانوا يحذرون النفاق ويعلمون أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء, وأنه " فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ" 99 الأعراف. فما الذي انفرد به عمر دون الصحابة هنا؟

وحتى أستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة, تخيلتُ مدرسا أخبر طلابه أن كلَّهم ناجحون إلا نفرا. فمن ذا الذي سيسألُ المدرسَ ما إذا كان من الراسبين غير من اعتاد الرسوب؟ فما الذي جعل عمر يظن بنفسه هذا الظن؟

هذا يعيدنا من جديد إلى مفتاح شخصية عمر الذي قال العقاد إنه طبيعة الجندي. إن عمر الذي جنَّد نفسه لخدمة هذه الأيديولوجية, يستعظم كل هفوة قد تكون صدرتْ منه. ففي الجندية فقط غير مسموح بالهفوات. وقد تُودي هفوة الجندي بمصير أمة. عمر هنا يعقد محكمة عسكرية لنفسه, فمازال يذكر موقفه يوم صلح الحديبية الذي قال هو فيه: " ...مازلت أتصدق وأصوم وأصلى وأعتق مخافة كلامي الذى تكلمت به ". كانت هفوة حتى لم يعاتبه النبي ص فيها. وقد يكون قد صدرت منه هفوات مشابهة نسيها الجميع إلا هو فظنها جعلتْه من المنافقين. إنه الجندي الذي يريد الاطمئنان أن صحيفة خدمته بيضاء.


إسلام عمر

يقول العقاد إن إسلام عمر حدثُ قد غير مجرى حياته كلها. والأحداث التي من هذا الطراز تحتاج إلى عدة أسباب لتفسرها ولا يُكتفى فيها بسبب أو سببين. وإذا كان الذي يغير موطنه أو زيه لابد وأن يكون له من وراء ذلك عدة أسباب, فالأولى بذلك مَن يغير عقيدته الدينية. والمحرك الرئيس للتغيير في هذه القضايا الكبرى هو وجود الاستعداد. فلو تعرض لنفس الظروف مائة ليس لديهم الاستعداد, ما تغير منهم واحدٌ. وهذا الاستعداد تهيئه ظروف وله أسباب قد يكون أوهنها الذي  جعله قيد التنفيذ. 

كان عمر قريبا من الإسلام يوم رثى لضعف امرأة وهي أم عبد الله بنت أبي حنتمة وهي في رهط من المسلمين يفر إلى الحبشة هربا من بأس قريش. ثم صار مستعدا لإشهار إسلامه لما رثى لانكسار أخته فاطمة وقد أسال دماءها على وجهها. وبين المناسبتين كان استعداد عمر يتقد ويكتمل. وهذا ما حدث يوم إسلامه منقولٌ من كتب السيرة...


خرج عمر ابن الخطاب يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ص في بيتٍ عند الصفا ومعه حمزة وأبو بكر وعلي في رجال من المسلمين, فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال له:

أين تريد يا عمر؟

أريد محمدا, هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها فأقتله.

والله لقد غرَّتك نفسُك يا عمر, أترى بني عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

وأي أهل بيتي؟

خِتنك وابن عمك سعيد ابن زيد وأختك فاطمة, فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما.

فرجع عمر عامدا إلى أخته وخِتنه وعندهما خباب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة "طه" يُقرأهما إياها, فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في بعض البيت, وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها, وكان عمر قد سمع حين دنا من البيت قراءة خباب, فلما دخل قال متجهما:

ما هذه الهينمة التي سمعت؟

وجعل يتلفت في جنبات البيت, فقال له سعيد:

ما سمعت شيئا.

بلي والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.

وهمّ بسعيد فبطش به, فقامت إليه فاطمة تكفّه عن زوجها فضربها فشجها, فصاحت في وجهه:

نعم, قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله, فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى عمر ما بأخته من الدماء, ندم وارعوى وقال:

أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤن آنفا انظر ما هذا الذي جاء به محمد.

إنا نخشاك عليها.

لا تخافي, واللات لأردنّها إذا قرأتها.

يا أخي, إنك نَجَسٌ على شركك, وأنه لا يمسها إلا طاهر.

فقام عمر فاغتسل, فأعطته فاطمة الصحيفة وقد طمِعت في إسلامه. وفيها: " طه , مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى , إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى , تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى , الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى , لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى , وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى , اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ". سورة طه.

فلما قرأ صدرا منها هدأ روعه وقال:

ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. ينبغي لمن يقول هذا ألا يُعبد معه غيره. دلوني على محمد.

فلما سمع ذلك خباب خرج مستبشرا يقول:

يا عمر, والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه, فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو عمر ابن الخطاب", فاللهَ اللهَ يا عمر.

فدُلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.

هو في بيتٍ عند الصفا مع نفر من أصحابه.

فتوشح عمر سيفه ثم عمد إلى رسول الله ص وأصحابه فضرب عليهم الباب, فلما سمعوا صوته قام رجل فنظر من خَلَلِ الباب, فرآه متوشحا سيفه, فرجع إلى رسول الله ص فزعا, فقال:

يا رسول الله هذا عمر ابن الخطاب متوشحا سيفه.

حمزة: فأذَنْ له, فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له, وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول الله ص:

ائذن له.

ونهض إليه رسول الله ص حتى لقيه في الحجرة, فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة قائلا:

ما جاء بك يا ابن الخطاب, فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة.

جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.

فكبر رسول الله ص تكبيرة عرف أهل البيت منها أن عمر قد أسلم, وتفرق أصحاب رسول الله ص من مكانهم وقد عزُّوا في أنفسهم بإسلام عمر بعد حمزة.

فلما أصبح عمر, سأل:

أي قريش أنقل للحديث؟

فدلوه على جميل ابن معمر الجمحي, فغدا عليه عمر فقال له:

أَعلمتَ يا جميل إني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟

فانطلق وما راجعه حتى قام على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته:

يا معشر قريش ألا إن عمر ابن الخطاب قد صبا.

وعمر من ورائه يقول:

كذب, ولكني أسلمت وشهدت ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.

فثارت إليه قريش, فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى أقبل العاص ابن وائل السهمي في حلة حبرة وقميص مُوَشَّى فوقف عليهم وقال:

ما شأنكم؟

صبأ عمر.

رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترَون بني عدي ابن كعب يسلمون لكم صاحبكم هذا؟ خلّوا عن الرجل.

فخلوا عنه, فكأنما كانوا ثوبا كشط عنه, فلما خلا عمر بنفسه تذكر أي رجل من قريش أشد عداوة لرسول الله ص, فإذا هو أبو جهل فأقبل عليه فضرب عليه بابه, فخرج عليه أبو جهل قائلا:

مرحبا وأهلا بابن أختي, ما جاء بك؟

جئت لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به.

فضرب أبو جهل الباب في وجهه قائلا: 

قبحك الله وقبح ما جئت به.

   كان إسلام عمر فتحا, فقد كان المسلمون ما يجرؤون على الصلاة عند الكعبة حتى أسلم عمر فقاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. وبدأت تتهاوى عقيدة الجاهلية وتحل محلها العقيدة الإسلامية حيث لا زلفى لوثن ولا بنات لله ولا مصاهرة بين الجن والله ولا كهانة تحدد للمجتمع وجهته ولا إنكار للبعث بعد الموت.


ويمكن تبويبُ أسباب إسلام عمر الذي ذكرها العقاد وتَتَبُّعُ أثرها في نفسه فيما يلي:

الرحمة

 كان عمر يبطش بالمسلمين في مكة اعتقادا منه أنه يزود عن الصواب في دين أبائه وعادات وتقاليد قومه, ذلك الاعتقاد الذي صار لصالح الإسلام. ولكنه لما رأى انكسار أم عبد الله بنت أبي حنتمة, وكان قادرا على البطش, غلبته الرحمة فأزاحت نقمته مفسحة المجال لعقله للتفكير. ومثل عمر إذا فكر يهتدي.


 بلاغة القرآن والخضوع للحق

فللقرآن سطوة لا ينكرها إلا جاحد. وليس العرب بالقوم الذين تخفى عليهم بلاغة القرآن وسطوته ولكنه الكبر والإعراض. فقد رأي عمر النبي ص يصلي عند الكعبة فتلصص حتى سمع منه القرآن. وليس الذي يخضع للحق كمن يراوغه, فقد وقع الإسلام في نفس عمر فلم يبق إلا دفعة بسيطة ليدخله بكل القناعة, وتلك التي تحققت صبيحة يوم إسلامه لما رأى انكسار أخته فاطمة وإصرارها على الحق, فهو أولى منها بهذا الحق. ثم قرأ شيئا من سورة طه فأسبغ عليه القرآن سطوته للمرة الثانية.


سلامة الفطرة

كان عمر سليم الفطرة. فلم يكن رجل مثله ليستريح إلى فساد الجاهلية أو يخفى عليه فسادها.


النزعة الدينية

عمر من أسرة ذات نزعة دينية ظهرت في مسارعة أخته وابن عمه سعيد ابن زيد إلى الإسلام. وكان من قبيلته في الجاهلية من يحارب الوثنية ويبحث عن الدين الحق في النصرانية واليهودية. فالنزعة الدينية تقود صاحبها إلى استقصاء الحق. وهكذا كان عمر.


الفراسة والزكانة

أضاف العقاد هذا السبب ولم يأت عليه بدلائل إلا بحادثة المكاشفة عن بعد مع سارية ابن حصن. وقد حدثت بعد إسلامه مما أحسبه من كرامات المسلم التي ما كان لينالها كافر.


وأزيد على أسباب العقاد:

النخوة

في قصة إسلام عمر مع أخته وزوجها نخوة لا تخفى. تلك النخوة التي تظهر عند استسلام الخصوم فتبدل حال المعتدي فيرعوي ويتقهقر ثم ينتهي به الأمر إلى مراجعة معتقده.


الاستعداد لمراجعة النفس

 وهو أمر يصعب على الكثيرين, أن يعترفوا أنهم كانوا مخطئين. ولكن باغي الحق لا يجد حرجا في ذلك وإن راجع نفسه عشرات المرات. وهل إقبال الناس اليوم على الإسلام بحيث صار أسرع الأديان انتشارا في العالم, إلا من ذلك؟  


الثقة بالنفس

ولا أستطيع أن أغفل أثر دعاء النبي ص بأن يعز الإسلام بأحد العمرين على عمر ابن الخطاب. فقد قال له خباب ابن الأرت لما رأى تداعيه للإسلام: "يا عمر, والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه, فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو عمر ابن الخطاب", فاللهَ اللهَ يا عمر".

فعمر يعرف من نفسه أنه أهلا لما هو أحق أن يُتّبع. وكما يقول العقاد, فالعظيم يعرف نفسه عظيما والعبقري يعرف نفسه عبقريا. فإذا وجد عمر نفسه في منافسة على حقٍ مع أبي جهل, فلا شك أنه سيؤثر نفسه بهذا الحق. وهذا ما حدث.


فلما فُتحت كل هذه الأبواب دخل عمر الإسلام دخول الصاعقة. فبرزت أسباب أخرى لإسلام عمر لم تُعرف إلا بإسلامه ومنها:


قوة الشخصية

قوي الشخصية يستطيع أن يفرض ما يؤمن به حقا. فهو لا يخضع للحق فقط, بل ويبذل في سبيل نصرته ما يستطيع. وقد ظهر هذا من عمر في أولى لحظات إسلامه فسأل النبي: ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن. فهذا رجل لا يطيق كتم الحق وقد أنفذ النبي ص مراد عمر فخرج المسلمون في صفين على أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر ولهما كديد كأنه كديد الطحين. وسماه النبي ص يومئذ الفاروق. وهل يَفْرِقُ بين الحق والباطل إلا قوي الشخصية؟


الضمير الحي

يقتص صاحب الضمير الحي من نفسه. كان من العسير على عمر الذي آذى المسلمين ألا يلقى هو نفس المصير وهو مسلم. لذلك سعى إلى نشر خبر إسلامه بأسرع وسيلة إعلامية يومئذ وهي لسان رجل لا يكتم سرا وهو جميل ابن معمر الجمحي, فثارت إليه قريش, فما استقرت نفسه إلا بعدما قاتلهم وقاتلوه ونال منهم ونالوا منه. 


الشجاعة والإنصاف

يُعرِّف العقاد الشجاعة بأنها "الجرأة على الموت كلما وجب الاجتراء عليه". وكانت الشجاعة والإنصاف هما عُدة عمر في تحدّيه لقريش. فالموت أهون عنده من كتم الحق وترك الباطل يظن نفسه حقا. ومن الإنصاف ألا يستطيل الظالم لمجرد ظنه أن المظلوم لا يستطيل عليه.


صفة إسلام عمر

إسلام القوي الشجاع

لذلك كان إسلام عمر إسلام القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة, لا إسلام الواهن المهزوم الذي هزمته الدنيا فزهد فيها زاعما أنه مقبل على الآخرة. فكان يضرب من يتماوت ويتمسكن ليظهر التخشع ويقول: من أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه, فإنما أظهر لهم نفاقا إلى نفاق. ولله ما أجمل هذا القول وأبلغه!

ولم يكن تقشف عمر وزهده عن تنسك وتخشع واستماتة, ولكنه تقشفٌ وزهْدٌ في الدنيا أملتهما عليه مسؤولية الخلافة وخوف حساب الله, فهو يأكل من بيت مال المسلمين, فأراد أن يكون القدوة أمام الرعية. فقد لامه أحد الرعية لأنه لبس ثوبين, وما لبس ثوبين ولكنه استخدم فضل ثوب ابنه ليطيل ثوبه وكان فارع القامة. وهو وقد زهد في الطيبات فلم يأمر بذلك سواه لأنه يعلم أن هذا تنطع في الدين. أرسل إليه أبو عبيدة ابن الجراح يستأذن في ترك أنطاكية – لبنان حاليا – حتى لا يخلد الجند للراحة وطيب الهواء ووفرة الخيرات. فأنكر عليه عمر ذلك وأجابه: إن الله لم يحرم الطيبات, فقال في كتابه العزيز :"يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا". وعليك أن تدع المسلمين يرغدون في مطعمهم ويريحون الأبدان النصبة في قتال من كفر بالله. وكان حذيفة ابن اليمان مع الناس وبين أيديهم قصاع اللحم, فدعاه عمر إلى طعامه فإذا طعامه خبز غليظ وزيت. فقال حذيفة: "أمنعتني أكل اللحم ودعوتني على هذا؟" فقال عمر: "إنما دعوتك على طعامي, فأما ذلك فطعام المسلمين."

  ثم أورد العقاد لفتة جميلة مؤثرة. فعمر يريد العيش كما عاش صاحباه من قبله, فقد رافقهما في الدنيا ويخشى إن هو خالف مأكلهما وملبسهما, تخالفه رفقتُهما في الآخرة.


إسلامٌ بصير الإيمان

لم يكن عمر ممن يلغون عقولهم في أمور الإيمان. ولكن يجتهد اجتهاد الآخذ بالأسباب العارف بمواطن النفع والضرر. فكان يقول كلما استلم الحجر الأسود: إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. وأمر بقطع الشجرة التي بايع النبي ص تحتها بيعة الرضوان مخافة أن يعتقد فيها الناس. ولما فشا طاعون عمواس وكان في طريقه إلى الشام, قرر الرجوع. فقال له أبو عبيدة ابن الجراح: "أفرارا من قدر الله؟" فقال: "نفر من قدر الله إلى قدر الله".


إسلام المحارب الشريف

فكان شأنه مع من حاربوه شأن المحارب الشريف ومع من عاهدوه أن يفي بالعهد ويخلص فيه أكثر مما كان يتوقع عدوه. فكتب لنصارى بيت المقدس أمانا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم لا تهدم ولا تسكن. وحان وقت الصلاة وهو في صحن كنيسة القيامة فخرج فصلى على درج الباب خشية أن يتخذ المسلمون مصلّاه داخل الكنيسة سُنّةً ويقولون: هنا صلى عمر. أما صيغة عهده فمثال يُدرّس للسماحة والمروءة لم تَجُد به حضارة من الحضارات.

وما شكا إليه مظلوم من أهل الذمة واليا كبر أم صغر إلا أنصفه. فقد بعث زياد ابن حدير الأسدي ليجمع عشور العراق والشام. فوجد نصرانيا من تغلب على فرسه فقيّمها بعشرين ألفا, وخيَّر النصراني ما بين دفع العشر ضريبة ويحتفظ بالفرس أو يسلمها لبيت المال ويأخذ تسعة عشر ألفا فاختار النصراني الأولى. ثم لقيه زياد قبل انقضاء العام فطالبه بضريبة أخرى, فأبي وشكاه إلى عمر. فلما علم عمر الخبر قال للنصراني كلمة واحدة: "كُفيت". فرجع النصراني حزينا وقد استعد لدفع ألف أخرى. فلما وصل وجد خطاب عمر قد سبقه إلى زياد يقول فيه: "من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ من شيئا إلى مثل ذلك اليوم من قابل". وقد مر بنا كيف أنه أجرى الصدقة على شيخ يهودي ضرير وقال: "ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم". وقصته مع قبطي مصر مشهورة؛ فقد اقتص لقبطي مظلوم من ابن عمرو ابن العاص حاكم مصر وسيأتي ذكرها.


شبهات اضطهاد عمر للذميين

يأخذ المستشرقون على عمر عدة قوانين سنّها ويعتبرونها اضطهادا للذميين وكلها صدرت عن حكمة تمليها مصلحة الدولة ويقرها العقل والعرف كما يقرها الدين.


النهي عن استعمال الذميين في المناصب العليا

قال عمر: "إني نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرُّشا." والرشوة لا شك تدمر النظام الاجتماعي والاقتصادي للدولة. وكان يعرض على الذمي المرشح للوظيفة الإسلام, فكان له عبد نصراني يدعى أسبق فعرض عليه الإسلام حتى يستعين به في قضاء بعض حوائج الدولة فأبي فأعتقه وأطلقه وقال له : "اذهب حيث شئت".


النهي عن تشبه الذميين بالمسلمين

كره عمر أن يترك الذميون ملبسهم ويتزيوا بزي المسلمين. لأنهم كانوا بذلك يتهربون من دفع الجزية التي هي تقابل الزكاة عند المسلم. فلو كان تزيّيهم بزي المسلمين حبا في دينهم, فلم لا يسلمون؟  


إخراج الذميين من جزيرة العرب

ما خرج منهم أحد إلا وقد غدر بذمة وكرر الغدر مرة بعد مرة كما فعل يهود خيبر, ونصارى نجران الذين نهاهم النبي ص عن التعامل بالربا فأصروا عليه حتى زمن عمر. فلما ضيّق عليهم عمر طلبوا هم منه الرحيل إلى الكوفة فاستحب ذلك واشترى منهم عقاراتهم وكتب لهم كتابا يضمن لهم فيه الأمن والأمان. غير أنه لم يمنع التجار من أهل الكتاب من ممارسة تجارتهم في الجزيرة العربية على أن يؤدوا العشور.

وبذلك نجد أن تعامل عمر مع الذميين يفوق رُقيّا ما تتبعه الدول اليوم في سبيل حماية أمنها القومي. فأهل الكتاب غرباء في الدولة الإسلامية ويفضلون مصلحتهم الخاصة على مصلحة الدولة, لاسيما والدول كانت تُميز بالعقائد لا بالأوطان كاليوم. فوجب الحذر.


عمر والدولة الإسلامية

يقول العقاد أن أبا بكر الصديق هو المؤسس الحقيقي لدولة الإسلام لأنه أول من وضع أسس توطيد العقيدة في حروب الردة وتأمين الدولة بسن سنة الفتوحات. ولعل العقاد يقصد أول مؤسس في الخلفاء أو أول مؤسس لدولة إسلامية خارج حدود جزيرة العرب. وإلا فالنبي ص قد أسس دولة الإسلام في المدينة المنورة راسخة العقيدة وسن سنة الفتوحات حتى وضع قدم الإسلام على مشارف الشام. وما نجاح أبي بكر في توطيد العقيدة في حروب الردة إلا بعض ما تعلمه من أستاذه النبي ص.

يقول العقاد أن أبا بكر وضع الأساس فلم يتسن له إكماله. فجاء عمر فأكمل الأساس وأقام البنيان. فعمر من المؤسسين. وهو يؤسس لدولة الإسلام منذ أول يوم في إسلامه, يوم جهر بالدعوة ويوم بايع أبا بكر ويوم أشار على أبي بكر بجمع القرآن وهو دستور الأمة, ويوم تولى الخلافة وهو يرى نفسه الأكفأ لها غير مُدافع فقال: "لو علمت أحدا أقوى مني على هذا الأمر, لكان أن أُقدّم فتُضرب عنقي أحب إليَّ من أن أليه".

 أقام عمر بنيان الدولة فراعتنا قدرته على ذلك, فقد التفت إلى المواضع الجديرة بالاهتمام والتقديم كأنه راجع تاريخ عشرين دولة مستفيضة الملك راسخة العمران. وهي قدرة تدهشنا من ملك تربى على الملك, فكيف وعمر رجل من البادية أقدم على ذلك لأول مرة دون سابقة خبرة!


دساتير عمر

وضع عمر دستورا لكل شيئ وتركه قائما لمن شاء أن يبني عليه. ومن هذه الدساتير:


دستور نظام الحكم

قام نظام حكم عمر على الشورى والنصيحة. وهو أساس النظم القويمة. فضن بنخبة الصحابة على الولاية وجمعهم عنده للشورى والفتيا تنزيها لأقدارهم عن التكالب في أمور دنيوية. وكان يستشير الأحداث لحدة عقولهم. وكان ينتصح للجميع "أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم". "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وللناس عليه حق النصيحة ولو آذوه فيه,. قال له أحدهم: "والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا". وهذا قول من لا يرى في عمر اعوجاج.

نظام حكم عمر "... لا يصلح إلا بشدة لا جبرية فيها, ولين لا وهن فيه".

الحاكم مسؤول عن ولاته في كل صغيرة وكبيرة ولا يعفيه من اللوم أن أحسن الاختيار.

أحق الناس بالحكم أقدرهم على البر والحزم والنهوض بالأعباء "إني قد وليت عليكم ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم وأشدكم استضلاعا بمُهم أموركم ما وليتُ ذلك منكم".

الحاكم خادم عند الرعية: "إني لم أبعث إليكم الولاة ليضربوا أبشاركم ويأخذوا أموالكم, ولكن ليعلموكم ويخدموكم"

العدل أساس الملك, ويسري على الكبير قبل الصغير. لذلك اقتص عمر لرجل بسيط من جبلة ابن الأبهم أمير أيلة. فماذا يكسب الإسلام لو احتفظ بجبلة ابن الأيهم وأتباعه, وفقد سمعته دينا للعدل والمساواة, يثق أهله بأحكامه ويطمئن الضعفاء إلى كنفه؟ 


دستور الجمعية العمومية

جعل موسم الحج جمعية عمومية للقاء الولاة ومحاسبتهم, والسماع من أصحاب المظالم, وسماع تقارير رقبائه على العمال والولاة.


دستور الفتوحات

وضع دستور الفتوحات كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقادته ومن أركانه: 

مشاورة كبار الصحابة.

التريث في قرار الحرب, وعدم المسارعة إلى إطلاق النار إلا عن بيان وثقة. حتى لا يُسفك دمٌ في غير موجب ولا تُعتسف خطة بغير روية.

عدم الثرثرة وكتمان السر.

مراعاة سيكولوجيات الشعوب وعمل حسابها كما ظهر في قوله عن أهل العراق: ...إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة...تقدم على قوم تجرؤوا على الشر ففعلوه وتناسوا الخير فجهلوه.

 مراعاة جغرافية البلدان كما قال عن القادسية مخاطبا سعد ابن أبي وقاص: "... وهو منزل رغيب حصيب دونه قناطر وأنهار ممتنعة". وكتب له أيضا: "صف لي البلد الذي بينكم وبين المدائن صفة أنظر إليها. واجعلني من أمركم على الجلية".

درء مسببات الحرب النفسية والإشاعات الهدامة. فقد أنكر على أبي عبيد تركه لحصار حلب واستسهال أمر لبنان خشية أن يقال: "ما قدر المسلمون على حلب". فيطمع الطامعون ويقوى مركز صاحب حلب فتلحق الهزيمة النفسية بجيوش المسلمين.

للقائد إدارة المعركة على الوجه الذي تقتضيه الساعة دون الرجوع للقائد الأعلى, بحسب ما لديه من الشواهد والأخبار التي يأتيه بها عيونه.

التكفل بأهالي الجند ومتطلباتم: "لكم علي ألا ألقيكم في المهالك وإذا غِبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم".


لذلك حلق عمر من نصر إلى نصر مما دعا رستم قائد الفرس لقول: "إنه هو عمر الذي يكلم الكلاب – يعني نحن العرب – فيعلمهم العقل. أكل عمر كبدي أحرق الله كبده". لذا يكره الفرس عمر.

القائد الأعلى لا يعفي نفسه من التبعة عند الهزيمة. نادى عمر في الناس ينتدب قائدا للقتال في العراق. فتخاذل الناس وكان أبو عبيد ابن مسعود أول من استجاب, فأعطاه عمر الراية لسبقه. وقد برهن أبو عبيد على جدارته باختيار عمر بانتصاراته الأولى. غير أنه في موقعة الجسر, خالف تعليمات عمر بالتريث وعدم المسارعة في الهجوم, فانهزم المسلمون واستشهد أبو عبيد.

أقول: ولعل هذه من أخطاء عمر المعدودات. فلا يحسن بالزعيم اختيار قائدٍ لمجرد حماسته وسرعة تلبيته, فحماس بدون خبرة وروية ينقلب إلى تهور. ولعله كان من الأفضل مناقشة أكفاء المتأخرين عن سبب تأخرهم ثم معالجة هذا السبب, لعل يكون من وراء ذلك تدابير تمنع الهزيمة. وقد حدث مثل هذا الموقف مع النبي ص في غزوة ذي قرد. فقد أغار عيينة ابن حصن على نوق لرسول الله ص وفيها رجل من بني غِفار وامرأته فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة, فكان أول من علم بهم سلمة ابن عمرو ابن الأكوع, فغدا متوشحا قوسه ونبله ومعه غلام لطلحة ابن عبيد الله معه فرس يقوده, حتى إذا علا ثنية الوداع رأى خيول القوم فصرخ: وا صباحاه.  ولما بلغ النبي ص  صياح ابن الأكوع, صاح ص بالمدينة: الفزع الفزع. فكان أول فارس انتهى إلى رسول الله ص المقداد ابن الأسود, ثم عباد ابن بشر ابن وقش فلما اجتمع لرسول الله ص سبعة فيهم أبوعياش و سعد ابن زيد أمَّر عليهم سعدا فقال: "اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس". ثم قال لأبي عياش: "يا أبا عياش لو أعطيتُ هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم؟" فقال أبو عياش: "يا رسول الله أنا أفرس الناس". ثم ضرب فرسه فما جرى به خمسين ذراعا حتى طرحه أرضا. 

كان أبو عياش من أوائل المستجيبين لنداء النبي ص وكان يرى نفسه أفرس الناس. ولكن النبي الحريص على فاعلية الإنجاز, لم يلتفت لذلك لما يعلم من وجود من هو أكفا للمهمة. ولكن أبا عياش كان يود خدمة الإسلام ونيل رضى النبي ص وإدخال السرور عليه, فما جرى به فرسه إلا قليلا حتى طرحه أرضا مثبتا صواب وجهة نظر النبي ص. حتى إن أول من لحق بالعدو لم يكن فيهم أبو عياش. 

ولا يقال إنما انهزم أبو عبيد ابن مسعود لأنه خالف نصيحة عمر بالتريث, فهل ينتفعُ المتعجلُ بنصح المتريثين؟ 


كلمة حق في فتوحات عمر

لم يكن النبي ص في جميع حروبه بادئا بالعدوان أبدا. وهكذا كان عمر. فالروم يهددون الإسلام منذ عهد النبي ص, وكانوا البادئين بتهييج الغساسنة لحرب المسلمين حتى عاش المسلمون منهم في فزع. فلما سرى حديث طلاق النبي ص لزوجاته, جاء عمرَ بالخبر رجلٌ فطرق بابه طرقا عنيفا. فخرج له عمر فزعا فقال له الرجل: "حدث أمر عظيم". فسأل عمر: "أجاءت غسان؟" فقال الرجل: "بل أعظم منه وأطول, طلق النبي زوجاته".

 أما الفرس فقد بلغ بهم الطغيان أن أوفد عاهلُهم من يأتيه بالنبي العربي حيا أو ميتا.

وأما فتح مصر فلأن أريطون قائد الروم بعد أن فر من بيت المقدس إلى مصر, أخذ يعد العدة ويجيّش الجيوش ليكرَّ على الشام ويستعيدها من المسلمين.

أمَا وقد فتح عمر كل هذه البلاد والأمصار تريّثا ودرءا للعدوان, فلا شك أن الأناة في السطوة أكبر ما يستحق الإكبار في خلق هذا الفاتح العظيم. 


وأقول: سبحان الذي جعل في نفوس أعداء الإسلام ما يلزم لنشر الإسلام من كِبر وصلف واستحقار لشأن المسلمين وجرأة عليهم. فما هو إلا أن يُسْمِعَ بالإسلام حتى يبادر أعداؤه للقضاء عليه فتدور عليهم الدائرة وتصير بلادهم دارا للإسلام. وبهذا وصل الإسلام إلى حدود الصين وروسيا والبلقان. فالله يأبي لدينه أن ينشر بالعدوان وهو القائل: "وَقَـٰتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ" البقرة 190.

غير أنه يجوز للمسلمين أن يغزوا بلدا إذا طلب منهم أهلُهُ رفع الظلم عنهم. كما حدث من قبط مصر وقوط إسبانيا وما تلا ذلك من فتح. 


 دستور التقاضي

كان عمر في الجاهلية حكما من قبيلة محكمين وسفيرا للصلح من قبيلة سفراء.  فهو في هذه الصناعة عريق. وضع عمر دستور القضاء بحيث لا يغفل عن عقدة قضائية إلا وضع لها حلا.

قال: "أعطوا الحق من أنفسكم ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إليَّ".

اعتمد في القضاء على الظواهر حتى تنقضها البينة: "ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنيتا عليه. ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه". 

النظر فيما يحضره بنفسه, وفيما غاب عنه بأهل الصدق والأمانة: " فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحدٌ دوني, ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الصدق والأمانة"

أمر الولاة بالقضاء الناجز: "افتح لهم بابك, وباشر أمورهم بنفسك, فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا"

الوالي والرعية سواء أمام القانون. فقد اقتص لقبطي مصري من ابن عمرو ابن العاص حاكم مصر, وسيأتي ذكرها.

النظر في مظالم أهل الكتاب. فلما ثار نصارى البصرة سأل الأحنف ابن قيس: " أخبرني, ألمظلمة نفر أهل الذمة أم لغير ذلك؟". فقال: "بل لغير مظلمة والناس كما تحب" – أي أن الأمور مستتبة – فهدأت نفسه.

بلغ عمر مبلغا في إنصاف الشعوب لا يحلم به دعاة إنصاف الشعوب اليوم. فقد جاء على قائده سعد ابن أبي وقاص لصالح قوم شكوه بدون وجه حق. فقد أرسل عمر وكيله على الولاة محمد ابن مسلمة يستوثق من شكاية قوم لسعد وحروب الفرس قائمة والظرف حرج. فأثنى الجميع على سعد عدا الفرقة الشاكية فقالت: :"لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية ولا يغزو في السرية". فلما استوثق عمر من براءة سعد وسوء طوية الشاكين عزله قائلا: "هكذا الظن بك أبا اسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم – أي الشاكين – بيّنا". فاحتاط للفتنة والحرب قائمة. فربما غبن والٍ لمصلحة أكبر وقال في ذلك: "هان شيءٌ أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير".

كان عمر كالناس يحب ويكره. ولكن لا ينفعك حبه ولا تضرك كراهيته عند الفصل, لأنه يفصل بالحق. لقي يوما أبا مريم السلولي قاتل أخيه زيد وكان يحبه حبا شديدا فقال له: "والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح". فقال أبو مريم: "أتمنعني لذلك حقا من حقوقي". قال: "لا". فقال: "لا ضير, فإنما يأسى على الحب النساء". فنحن أمام نظام حكم يحمي رجلا من حاكم يبغضه. حاكم شديدٌ شدة تطمئن العدو والصديق.

علم القضاة كيف يتصرفون حين يلتبس عليهم الأمر. وضرب لهم المثل بإسقاط حد السرقة عام المجاعة, وحد الزنا عن المُجبرة. قال تعالى: " وَلَا تُكْرِهُوا۟ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًۭا لِّتَبْتَغُوا۟ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ" النور: 33. 

ومما نصح به القضاة ما أخذه عنه العالم المتحضر اليوم إذ يقول: 

"إن القضاء فريضةٌ مُحْكَمة، وسُنَّة مُتَّبَعة، فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفِك، ولا ييئس في عدلك، والبيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنْكَرَ، والصلح جائز بين الناس إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ومَن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بيِّنَة، فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببيِّنَة أعطيته بحقِّه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية؛ فإن ذلك أبلَغُ في العذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك من قضاءٍ قضيته اليوم فراجعتَ فيه رأيَك، وهُديت لرشدك - أن تراجع الحقَّ؛ فإن الحقَّ قديم لا يُبطل الحقَّ شيءٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. والمسلمون عُدُول بعضهم على بعض في الشهادات، إلا مجلودًا في حَدٍّ، أو مدرك عليه شهادة الزور، أو ظنينًا في ولاء أو قَرابة؛ فإن الله عز وجل تولَّى من العباد السرائر، وسَتَرَ عليهم الحدود إلا بالبيِّنات والأيمان. ثم الفَهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في كتابٍ أو سُنَّة، ثم قايسِ الأمورَ عند ذلك، واعرف الأمثالَ والأشباهَ ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهِها بالحقِّ. وإياك والغضبَ والقلقَ والضجرَ والتأذِّي بالناس عند الخصومة والتنكُّر؛ فإن القضاء في مَواطِن الحقِّ يُوجب اللهُ به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمَن خلصت نيَّتُه في الحقِّ ولو على نفسه، كفاه اللهُ ما بينه وبين الناس، ومَن تزيَّن لهم بما ليس في قلبه شانه اللهُ تعالى؛ فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا، وما ظنُّك بثوابِ الله في عاجل رِزْقه وخزائنِ رحمته؟ والسلام عليكم ورحمة الله".


قال ابن القيِّم رحمه الله: "وهذا كتاب جليلٌ تلقَّاه العلماءُ بالقَبول، وبَنَوْا عليه أصولَ الحُكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيءٍ إليه، وإلى تأمُّله، والتفقُّه فيه"

وأقول: لو ما درس طلبة الحقوق إلا هذا الدستور العمري وما اعتمد عليهم من مصادر التشريع, لكفاهم.


دستور المالية

صلاح المال في ثلاث: "أن يؤخذ من حق ويعطى في حق ويُمنع من باطل" 

وضع دستور "من أين لك هذا؟" فكان يحصي أموال الولاة قبل وبعد تولي المنصب ويحاسبهم على ما زاد بدون وجه حق. وكان يأمر الولاة إذا عادوا إلى مسقط رؤوسهم أن يدخلوها نهارا ليظهر ما حملوه معهم من متاع. وقد مضت بنا قصته مع أبي سفيان, لما كتم عنه مالا أخذه من ولده معاوية.

الصرف من بيت المال بالمعروف: "لكم عليَّ ألا أجتني شيئا من خراجكم إلا من وجهه وألا يخرج مني إلا في حقه". "إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين؛ حلة للشتاء وحلة للصيف. وما أحج به واعتمر. وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم" وإن رزقه الله ما يغنيه عن بيت المال كف يده عنه.

السخاء مع الرعية " لكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم"

السخاء مع الولاة فقد أجرى على عمار ابن ياسر حين ولاه الكوفة 600 ستمائة درهم شهريا. وعلى عبد الله ابن مسعود 100 مائة لتعليمه الناس. وعلى عثمان ابن حنيف 150 مائة وخمسين هذا غير العطاء السنوي والدعم العيني من طعام ولحوم.

وضع نظاما لتحصيل وصرف الجزية بحسب الأمم والبلاد.


دستور الرقابة الإدارية

كان يرصد للولاة الرقباء والعيون ليبلغوه ما ظهر وما خفي من أمورهم. حتى كان الوالي يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع أمره للخليفة. فإذا ما جاءه الرقيب بشكاية, أرسل وكيلا يجمع الشكايات ثم يحقق فيها بنفسه ليستوفي ما نقله الرقيب. ومن أشهر ما وصل إلينا في ذلك قصته مع شكاية القبطي المصري.


خبر القبطي المصري

سبق فرسٌ لقبطي فرسَ محمد ابن عمرو ابن العاص, فغضب ابن الوالي ووثب على القبطي يضربه بالسوط قائلا: "خذها وأنا ابن الأكرمين". فلما بلغ ذلك عمرو حبس القبطي خشية أن يشكوه للخليفة. ولكن القبطي استطاع الهرب فجاء الخليفة بشكايته. يقول أنس ابن مالك راوي القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له إجلس.

ومضت فترة فإذا الخليفة قد استقدم عمرو وابنه فمَثُلا في مجلس القصاص. ثم دعا القبطي وقال له: "دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين". يقول الراوي: "فضربه حتى أثخنه ونحن نشتهي أن يضربه, فلم ينزع حتى أحبننا أن ينزع من كثرة ما ضربه". ثم قال له عمر: "أَجِلْها على صلعة عمرو, فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه". ففزع عمرو وقال: "يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت". فقال القبطي: "يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني". ثم التفت إلى عمر وقال قولته الخالدة: "متى تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"

وهذه القصة يصح أن توضع مع دستور نظام الحكم ودستور التقاضي كذلك. ففيها أحكام لمحاسبة الولاة وعدالة التقاضي مع ما فيها من أحكام الرقابة الإدارية وإساءة استخدام المناصب. كما يُستشهد بها أيضا في باب بأس عمر القادر على إمضاء بأسه على أعظم ولاته شأنا. ولربما شاب القصة بعض المبالغة لاسيما في أمر عمر للقبطي بضرب الوالي, كما بالغوا في قصة ضرب عمر ولده حد شرب الخمر حتى مات. ولكن ما من دُخَان طار بأمر من أمور عمر, إلا وله نار.

ويبقى السؤال؛ لِمَ سارع هذا القبطي الذي طالما سيم وقومه سوء العذاب على يد الرومان, بشكايته لخليفة المسلمين؟ أين كانت كرامته آنذاك وأين صارت اليوم؟


الدستور الاجتماعي

كان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره. وينهى أن تَظنَّ بكلمة شرا ولها في الخير محملا.

كفلت دولة عمر العجزة من أهل الكتاب لتعفهم عن السؤال.

كان يحظر على الولاة مظاهر الخيلاء والأبهة التي تجافي بينهم وبين الرعية.

نهى عمرو ابن العاص عن الإتكاء في مجلسه ولا يتعالى على الرعية.

وكل معظم الدواوين لأبناء البلاد يزاولونها بلغاتهم لأنها ليست من أسرار الدولة, وحتى يتفرغ العرب لفرائض الجهاد والدفاع.

أمر بتقديم أهل التقوى والدين في المجالس فكتب لأبي موسى الأشعري: بلغني أنك تأذن للناس جما غفيرا. فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل القرىن والتقوى والدين. فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة.


دستور الاقتصاد

 كان دستور الاقتصاد في عهد عمر موافقا لمصلحة الدولة آنذاك. 

حض على التجارة وشجعها.

أبقى الأرض في البلاد المفتوحة لأبنائها كي يعصم الجند من الصراع على الأراضي ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء, وأجرى على الجند عطاء بيت المال.


دستور الأوقاف

كان عمر أول من أسس ديوان الوقف الخيري كما نعهده الآن.

أنشأ بيت الدقيق لإغاثة الجياع.

جعل الأرض التي أصابها في فتح خيبر وقفا لا تباع ولا توهب ولا تُورّث, ينفق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم.

لا جناح على من يلي الوقف أن يأكل منه بالمعروف.


دستور العمران والمجتمعات الجديدة

كان لعمر من الرأي السديد في هذا الشأن ما ناسب الحاجة في وقته. 

شاهد في جند العراق هزالا فلما علم أن سبب ذلك سوء جو المدائن ودجلة, أرسل إلى سعد ابن أبي وقاص: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. فابعث سليمان وحذيفة فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فبُنيت الكوفة أقرب للصحراء.

أقول: وقد أورد أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام نقد ابن خلدون لموقع بناء الكوفة. واستشهد بذلك ابن خلدون على عدم براعة العرب في التخطيط العمراني. ولعل علة اختيار هذا الموقع قد ظهرت الآن.

قنن تخطيط الطرق بحيث يكون عرض الرئيسي منها 40 أربعين ذراعا, وما دونها ثلاثون وهكذا بحيث لا يقل عرض الأزقة عن 7 سبعة أذرع. وأعتقد أن هذا مما أخذه العرب عن حضارات الأمم المفتوحة.

اشتكى الجند على حدود بلاد فارس برودة الشتاء واحتاجوا إلى ملجأ, فأمر ببناء البصرة عند ملتقى النهرين حيث المراعي والماء.

أمر عمرو ابن العاص بشق قناة بين خليج السويس والفسطاط وأمهله حولا. فما حال الحول حتى جرت فيه السفن وسمي بخليج أمير المؤمنين. ولم يزل مفتوحا حتى أهمله الولاة.

أمر عمر بالحد من ارتفاع الدور وتشييد القصور بما لا يناسب مدنية عصرنا الحاضر. فقد أراد عمر أن يسد باب الترف والبذخ الذي أهلك دولا من بعده. وأن يحول بين الجند وبين الاستنامة والركون إلى المتاع فلا يقوون بعدها على قتال, كحال الأمة نهاية الدولة العباسية عندما اجتاحها التتار بيسر.


دستور إدارة الكوارث والأزمات

لم تواجه عمرَ في ولايته صعوبةٌ غلبته. فكان على أهبة الاستعداد للصعاب بالحزم اللازم والحيلة الصالحة. ولم تواجه عمر أزمةٌ كأزمة عام الرمادة. فنهض للكارثة نهوضه لكل خطب. وكان من سياسته في إدارة الأزمة:

استجلاب القوت من أماكن الفضل لأماكن العوز. وكان يحمله على ظهره مع الحاملين إلى الجياع.

قدم القدوة الحسنة فآلى على نفسه لا يأكلنّ طعاما لا يأكله الفقير المعدوم.

علَّم الناس ترشيد الاستهلاك. فقال للزبير ابن العوام: "اخرج في أول هذه العير فاستقبل بها نجدا. فمُرْ لكل أهل بيت ببعير بما عليه. ومُرْهم فليلبسوا كساءين. ولينحروا البعير فليحملوا شحمه, وليقددوا لحمه, وليحتزوا جلده. ثم ليأخذوا كُبّة من قديد وكبة من شحم وحفنة من دقيق فليطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم رزق الله".


فهو مؤسس دولة ملهم. وكل هذه الأعمال سهل أن تُكتب بقلم, ولكن صعبٌ تخيل حدوثها في الواقع. فكيف دبر عمر وأدار وحاسب وقوَّم وغزى وانتصر وأرعب وطمئن وعيَّن وعزل في زمن أسرع وسائل النقل فيه بعير سريع؟ 


عمر والحكومة العصرية

عمر ابن عصره ونحن مطالبون بفهمه في زمانه, وليس هم بمطالب أن يشبهنا في زماننا. والرجل الذي يصنع في عصره خير ما يُصنع, هو الرجل قدوة كل جيل. فنحن إذا قسنا أعمال عمر بمقياس زماننا قد نجد فيها كثيرا من المستغربات التي تحول بيننا وبين تقديرها الصحيح لأول وهلة. فإذا أدركنا الحكمة في هذه الأعمال, زالت الغرابة ووجدنا فيها الحق الذي لا يتغير بتغير العصور والأزمان.

وقد أخذ العصريون على عمر عدة قضايا نوجزها فيما يلي:


قضية شظف العيش

وخذ مثالا على هذا أنه كان يأكل الخبز الجاف مع الزيت, ويلبس الكساء الغليظ ويدهن إبل الصدقة بالقطران, ويراه رسل الملوك وهو نائم على الأرض تحت شجرةٍ نومةَ الفقير المعدم. وتَعْرِضُ له المخاضة وهو داخل إلى الشام فيخلع خفيه ويخوضها. ويسافر مع خادمه فيتساوى معه في المأكل والمركب والكساء. فهل نطالب حكام اليوم بهذه السيرة؟ بالطبع كلا.

لِحكامِ اليوم وكل يوم أن يرتسموا ما يشاؤون من سمت وشارة تحقق لهم ولأممهم المهابة والإحترام بين الأمم. وعمر قد حقق لأمته المهابة والاحترام على ما كان من زهده وتقشفه. فوصل لذات الغاية التي يسعى لها حكام اليوم بطريقته الخاصة التي يحبها ويفضلها. وبذلك تكون قد تحققت مصلحة الدولة العليا ولا سبيل لأحد أن يؤاخذه بمقياس حديث أو قديم.

وإني لأسأل بعد هذا التحليل اللافت للعقاد: مَن مِن الملوك والحكام عبر فصول التاريخ استطاع أو يستطيع أن ينجح في تحقيق المهابة والاحترام لأمته على طريقة عمر؟ فكلهم عند طريقته فاشل. وهو ناجح عند طريقتهم. أن تجبر الناس على هيبتك واحترامك وأنت ذو ثوب بالٍ, فلابد وأنك أوتيتَ جوامع الهيبة والاحترام فيما عدا هذا الثوب فيك.


تحليل سيكولوجية عمر التقشفية

يحسن بنا بعد بيان ما سبق أن نوضح الأسباب النفسية وراء نزوع عمر إلى هذا الشظف والزهد والتقشف.

جادة صاحبيه

رأى عمر كيف عاش صاحباه النبي ص وأبو بكر. وقد جمع الثلاثةَ ترابطٌ روحي ووجداني تعدى حدود الحياة الدنيا. وعمر يمنّي نفسه بمصاحبتهما في الآخرة كما صاحبهما في الدنيا. فكيف يستبيح حظا من الدنيا لم يستبيحاه؟ وكيف يطيب له طعام لم يذوقاه؟ أعتقدُ أن هاجس خشية مخالفة دربهما لم يزل يسيطر عليه حتى لاقاهما. فلما توسل إليه خاصتُه أن يشفق على نفسه قال لهم: "قد علمت نصحكم. ولكني تركت صاحبي على جادة, فإن تركت جادتها لم أدركهما في المنزل". فهو المنزل إذاً الذي ما غاب عن ذهن عمر لحظة. فإذا جاءته بنته حفصة – زوجة النبي ص – بأطايب الطعام سألها: "ما كان نصيب النبي من هذا؟" فيكون السؤال هو الجواب.

لقد رفع اللهُ عمرَ إلى مرتبة ثالثَ ثلاثة, فكيف ينزلُ بنفسه عن هذه المرتبة؟


طبيعة الجندي

 وقد مر بنا في باب مفتاح شخصيته أنه جندي لله يحب أن يقف أمامه يوم القيامة وقفة من أدى الأمانة ونجح في المهمة.


قدوة الولاة

فإذا رأى ولاته ذلك منه جاهدوا أنفسهم وكفوا أيديَهم حرصا على ما يرضيه منهم وتورعا عما يغضبه.


ثم نجد أن هذه الحكومات العصرية قد أخذت بالطريقة العمرية في أوقات الحروب والأزمات فاتبعت إجراءات تقشفية, واثنت الشعوب على قادتها الذين عاشوا عيشة شعوبهم في هذه الأوقات. ومن الرؤساء من طالب شعبه بالحد من أكل اللحوم وشرب الشاي. بينما لم يلزم عمر غير نفسه بالتقشف إلا في عام الرمادة.


أما ما عدا هذا فيقع في حدود التشابه في الجوهر والاختلاف في المسميات والقشور. فما فعله عمر في هاتين القضتين هو ذات ما نفعله اليوم ولكن بالقوانين.


قضية التعويض

مر عمر في سوق المدينة فرأى إياس ابن سلمة معترضا الطريق فخفقه بالدرة ليميط عن الطريق. وبعد عام لقيه وقد علم أنه يريد الحج, فأخذ بيده حتى دخل بيته وأعطاه 600 ستمائة درهم وقال له: "استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك بها عام أول". فقال إياس: "يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها". فأجابه عمر: "أنا والله ما نسيتها".

وهذا أهون مما يفعله جندي المرور اليوم, ومثل ما تقضي به المحاكم في تعويض المتضررين.


قضية الدعارة

رأى عمر امرأة في زي استغربه فسأل عنها فقيل له إنها الأمة فلانة. فضربها بالدرة وهو يقول لها: يا لكعاء, أتشبَّهين بالحرائر؟

وقد لاقى ذلك التصرف نقدا لازعا من دعاة الحرية الشخصية. ولكن ماذا تفعل الحكومات العصرية اليوم في تتبع الداعرات؟ ولمَ يمنعنون ارتداء النقاب في مواطن الشبهات؟


قضية الإعلام

نهى عمر الحطيئةَ عن الهجاء وكان يتكسب منه. فدعاه عمر وأجلسه بين يديه وجاء بشفره ومثقب موهما إياه أنه سيقطع لسانه. فلم يشك الحطيئة أن لسانه مقطوع لا محالة, وتشفع له الحاضرون. ولكن عمر أطلقه بعد أن أخذ عليه عهدا لا يهجونّ أحدا, واشترى منه أعراض الناس بثلاثة آلاف درهم. وإن الحكومات العصرية لتحار في أي بند تضع هذا المبلغ؟ وهي التي تنفق الملايين على الإعلام لمقالة أو لسكوت أو لتجميل صورة.


قضية العسس

كان عمر يعس في المدينة فسمع صوت رجل وامرأة, فتسور الحائط فإذا رجل وامرأة عندهما زق خمر. فقال للرجل: "يا عدو الله, أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟" فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين أنا عصيت الله في واحدة وأنت في ثلاث. فالله يقول: و"لا تجسسوا" وأنت تجسست. والله يقول: "وأتوا البيوت من أبوابها" وأنت تسورت الجدار. والله يقول: "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" وأنت لم تفعل". فقال عمر: "هل عندك من خير إن عفوت عنك؟" قال : "نعم, والله لا أعود". فقال : "اذهب فقد عفوت عنك".

والعقاد يلتمس لعمر العذر ويتذرع بحال الحكومات العصرية في مراقبة ذوي الشبهات إذا عُلم عنهم سرٌ يوشي بجريمة محظورة, فهي تراقبهم حتى تعثر على دليل يُقدم للقضاء, لأن القضاء لا يحكم إلا بدليل. فهو استطلاع يسبق التقديم للمحاكمة ولكن استطلاع عمر قاد إلى توبة المذنب.

والذي أراه أن العقاد قد استشهد بسلامة موقف عمر بموقف للحكومات لا يليق. لأنه هو الآخر فيه عصيان الله في الثلاث اللاتي ذكرهنّ المذنب. والقصة إن صحت فقد أخطأ عمر ولكن هي عندي لا تصح للأسباب التالية:

لا يستقيم أن يتسلق عمر الجدار لمجرد سماع صوت رجل وامرأة لم يوش بجريمة. وهل يليق بمثل عمر في فقهه وعمره أن يتسلق الجدر؟

لا يسأل هذا السؤال مثل عمر؛ " أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟". فأقل المسلمين علما يعلم أن الله يستر المذنبين مرة بعد مرة. بل شر الناس في الإسلام رجل ستره الله فأصبح ففضح نفسه.

آيات القرآن لم تغب عن عقل عمل لحظة, فلا يُعقل أن يغيب عن مثل عمر الآيات الثلاث فيذكّره بهن شارب خمر. 

 كيف يضع نفسه في هذا الموقف المخزي, موقف من يستجدي العفو؟

 كيف يقول عمر للمذنب: "اذهب فقد عفوت عنك" وهو بعدُ في بيته؟ الأوْلى أن ينصرف عمر إلى بيته فيكون هو الذاهب.

  

قضية خرافة النيل

زعموا أن نيل مصر جف. فأرسل له عمر رسالة: "من عمر ابن الخطاب إلى نيل مصر, أما بعد.. فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر, وإن كنت تجري من عند الله فأسأل الله أن يجريك" فجرى وفاض.

ولن نخوض في القصة المفتراه لسخافتها.






عمر والنبي ص

يقدم العقاد لهذا الفصل بقوله أنه قلما يظفر الباحثون النفسيون بثراء التجربة النفسية مثلما يظفرون إذا درسوا نفس عمر. فظواهر نفس عمر ليست من ظواهر كل يوم. وهي ظواهر برغم بساطتها إلا أن لها تركيبا عجيبا يتعذر وجوده حتى في نفوس العظماء. 

وأعظم استفادة عند دراسة نفس عمر تكون في مجال علم الأخلاق. وعلم النفس يستفيد من دراسة أي نفس عظمت أو صغرت. ولكن قلما تجد نفسا تستطيع أن تخرج من دراستها بنتائج في علم الأخلاق. لأن نتائج علم الأخلاق أقرب ما تكون إلى الآمال المنشودة والمثل العليا. ودراسة نفس عمر جعلت هذه الآمال المنشودة والمثل العليا واقعا ملموسا.

ومن هذه المثل العليا التي جعلها عمر واقعا ملموسا ما يلي:

القوة لا تناقض العدل. لأن القوة تردع الظالمين فيتحقق العدل.

القوة لا تناقض الإعجاب بالآخرين. فالناس يظنون أن من يُعجب به الناس لا يُعجب هو بأحد. فعمر بطل يستحق الإعجاب غاية استحقاقه, وهو في نفس الوقت يستصغر نفسه بالنسبة لعظمة النبي ص. فكان يحب النبي ص حب إعجاب ويؤمن به إيمان إعجاب. لذلك فرح عمر عندما قال له هذا النبي العظيم: "يا أخي" وظل يذكرها مدى الحياة. استأذن عمر النبي في العمر فأذن له وقال: "يا أخي لا تنسنا من دعائك". فمازال عمر يقول: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله يا أخي.

فعمر الذى رأى نفسه الأجدر بحمل تبعات الخلافة, يستصغر نفسه مع النبي ص, فيكبر في أعيننا بهذ الاستصغار. وما كان عمر يتصاغر إلا أمام عظم فضل الله عليه أن جعله أميرا للمؤمنين, ولِوأْدِ بواعث الكبرياء في نفسه. فكان يُسمع منه: بخٍ بخٍ يا ابن الخطاب أصبحت أمير المؤمنين. ولما خلع خفيه وخاض المخاضة وهو في طريقه إلى الشام. وقوله وقد مر ببعض شعب مكة: لقد رأيتني في هذه الشعاب أرعى إبل الخطاب.

الإعجاب بالآخرين لا يناقض الاستقلال, ولا يهدد الشخصية بالفناء والزوال. فيُعجب بمن يفوقه غاية الإعجاب, ويحتفظ مع ذلك باستقلال رأيه. فما أحجم عمر عن مصارحة النبي ص برأي رآه. والأعجب أن النبي ص كان يعجبه ذلك, فيستمع إلى عمر حين يقترح وحين يستنزل الأحكام. وقد وافق القرآنُ رأي عمر في أكثر من حكم نذكر منها:


موافقات القرآن الكريم لعمر

عدم اتخاذ أسرى في أول حرب للإسلام

 ولما اتخذ النبي ص بعد نصر بدر أسرى, وكان رأي عمر خلاف ذلك, نزل القرآن: "مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ" الأنفال 67


 حجاب نساء النبي ص

أشار عمر على النبي ص بحجاب نسائه فينزل القرآن: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعًۭا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍۢ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا۟ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓا۟ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا" الأحزاب 53.


عدم الصلاة على المنافق

لمَا هَمَّ النبي ص بالصلاة على زعيم المنافقين عبد الله ابن أُبي ابن سلول, تحول عمر حتى وقف في صدره يذكِّره حربه على الإسلام حتى أكثر على النبي. ثم صلى عليه النبي ص ودفنه فنزل القرآن: "وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٍۢ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًۭا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُوا۟ وَهُمْ فَـٰسِقُونَ" التوبة 84


 موافقات النبي ص لعمر

أرسل النبي ص أبا هريرة فقال له: "اذهب ... فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة". فكان أول من لقي عمرَ, فصدَّه وعاد به إلى النبي ص يسأله: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي, أبعثتَ أبا هريرة من لقي من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟" قال النبي: "نعم". فلم يتردد عمر أن يقول للنبي: "فلا تفعل يا رسول الله. فإني أخشى أن يتكل الناس عليها. فخلِّهم يعملون". فوافقه النبي قائلا: "فخلِّهم".  رواه أبو هريرة والحديث في صحيح مسلم. فمن ذا الذي يجرأ أن يقول للنبي: لا تفعل. فيأخذ برأيه؟ فهذا عمر الذي يوافقه الوحي. 

ولما كان النبي ص في احتضاره, دعا بصحيفة يملي للمسلمين كتابا لا يضلون بعده. فأشفق عمر عليه وقد غلبه الوجع فقال: "إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا". فلم يعد النبي ص إلى طلب الصحيفة إلى أن توفاه الله. 

أما في صلح الحديبية. لم يكن لعمر ما للنبي ص من إشراقات النبوة فيعلمَ أن مئال الصلح إلى خير وإن انطوت بنوده على إجحاف ظاهر للمسلمين. فكان عمر في معسكر المعارضين للصلح. فعمر الغيور على الحق القوي فيه, قد غمَّه هذا الصلح فلم يجد غضاضة أن يراجع النبي ص فيه قائلا: "علام نعطي الدَنِيَّة في ديننا؟" فما هو إلا أن قال له النبي ص: "يا ابن الخطاب, إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا". حتى علم أن في الأمر ما لا يدركه فثاب وأطاع.  




فعمر إذاً لا يسكت عما لا يريح نفسه ويقرُّها. فهو يراجع أو يفهم, فيهدأ ويطيع. وإذا كان عمر كذلك مع النبي ص, فإنه أدعى أن يكون كذلك مع أبي بكر.

ولقد كان النبي ص يُكبر عمر أكثر من أي حد, ولِمَ لا وهو معلمه ومؤدبه وهاديه وأدرى الناس به. وكان النبي ص يرضى مخالفاته كما يرضى موافقاته. لأن باعث المخالفات والموافقات واحد؛ وهو خير الإسلام والحرص على مصلحته. 

وحري بهذا النبي المعلم أن يعرف في تلميذه عمر مشابهات الطبائع النبوية, ويحيط بكل فضيلة من فضائل عمر. فهو القائل: "قد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء. فإن يكون في أمتي أحد فعمر".  روته السيدة عائشة وهو متفق عليه وفي صحيح الترمذي. وقوله: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه عبد الله ابن عمر وصححه الألباني وهو في  صحيح الترمذي. وقوله: "لو كان بعدي نبي لكان عمر ابن الخطاب" صححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الترمذي والألباني. وقوله: "عمر ابن الخطاب معي حيث أحب, وأنا معه حيث يحب. والحق بعدي مع عمر ابن الخطاب حيث كان". صحيح البخاري.

فالآن نعلم لمَ دعا النبي ص ربه أن يعز الإسلام بعمر.

وقد تعلَّم عمرُ من النبي ص فتغير بعض طبعه الحاد. وهذا ما يلزم الخليفة, أن يهتدي بهدي النبوة. فعمر الذي كان يستأذن النبي ص في ضرب عنق أي مارق, نراه اليوم وهو خليفة يتريث ويستتيب. فعندما فتح المسلمون "تستر", ارتد رجل عن الإسلام فقتلوه. فلامهم عمر على ذلك وقال لهم: "هلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه وأطعمتموه كل يوم رغيفا فاستتبتموه؟ اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني".

لم يكن يعوز عمر دروسٌ في حب الحق وكراهية الباطل لأنها خليقة أصيلة في طبعه. فمن هذا المنطلق كان واجب عمر الأول أن يعرض أقصى ما عنده من بأس ويدع لصاحب الأمر أن يأخذ به كله أو يكتفي باليسير منه. فهذا خيرٌ من عرض اليسير ويكون صاحب الأمر في حاجة إلى الكثير. ولكن قد يُعْوزه أن يتعلم الصبر على الباطل وألا يأسى على الحق أن تفوته جولة في صراعه مع الباطل. فهي معركة لا تُخسر بصدمة ولا تُكسب بهجمة. 


عمر وآل البيت

يقول العقاد أن من أولعوا عبر التاريخ باختلاق المخاصمات – يقصد الشيعة – يمثلون عمر على صورة من يتحدى بني هاشم ويناجزهم لعصبيته لبني عدى قومه. ولكنهم لا يعززون شبهاتهم من الواقع. وكل ما يُخلص إليه في ذلك الأمر, يًجمل بعمر ويُحمد له.


مع علي ابن أبي طالب

كان عمر يستفتي عليا في حوائجه ويتحرج من دعوته فكان يذهب إليه. استفتى بعض الناس عمر فقال لهم: "اتبعوني". وأخذهم إلى علي فذكر له المسألة. فقال علي:  "ألا أرسلت إليَّ؟" فقال عمر: "أنا أحق بإتيانك". 

استخلف عمر عليا على المدينة عندما سافر إلى الشام.

يقول الشيعة أن عمر حال بين علي وبين الخلافة لمّا صرف النبي  -حال مرضه - عن كتابة كتاب لا تضل الأمة بعده. وهذا لا يستقيم للأسباب التالية:

عاش النبي ص بعد ذلك أياما ولم يطلب صحيفة لكتابة الكتاب. فلا أحد يجزم بما كان ينتوي النبي ص كتابته.

كان من الممكن أن يستخلف النبي عليا بكلمة واحدة بلا كتاب.

كان النبي ص يجنب آله الولاية.


ثم دافع العقاد عن عمر فيما نُسب إليه من إكراهه علي وطلحة والزبير على مبايعة أبي بكر. ولن أخوض في هذا الدفاع إذ أن القصة عندي لا تصح. فكيف يكره عمر أحدا على البيعة وهو يعلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة ألا بيعة للمستكره. وكيف يفعل ذلك والنبي يقول: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". حديث صحيح عن ابن ابن عباس.


مع عبد الله ابن عباس

كان عمر يستفتي ابن عباس ولا يجده مسترسلا في شرح حديث أو آية إلا قال له معجبا: "غص غواص". وكان إذا سئل في مسألة وابن عباس حاضر أشار إليه قائلا: "عليكم بالخبير بها".

وما أحجم عمر عن تولية آل البيت إلا لإحجام النبي ص عن ذلك. وفي ذلك يقول لابن عباس: "إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم". وقد كان هذا دأب عمر مع كبار الصحابة أجمعين. فقد ضن بهم على المناصب والكراسي, وخشي افتتان الناس بهم أو تحزبهم إليهم.


مع الحسن والحسين

دعا عمر الحسين يوما فبينما هو ذاهب إليه, قابل ابنه عبد الله ابن عمر. فسأله: من أين جئتَ؟ قال: "استأذنت على أمير المؤمنين – يعني أبيه -  فلم يأذن لي". فحسب الحسين أن أمير المؤمنين مشغول فعاد أدراجه. ثم لقيه عمر بعد ذلك معاتبا: "ما منعك يا حسين أن تاتيني؟" قال: "قد أتيتك ولكن أخبرني عبد الله ابن عمر أنه لم يُؤذن له عليك فرجعتُ". فعز ذلك على عمر وقال له: "وأنت عندي مثله, وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم؟" (مثل يُضرب لكرام القوم)

كسا عمر الناس ولم يكن في الأكسية ما يصلح للحسن والحسين. فأرسل إلى اليمن فأتى لهما بكسوة, فلما رآها قال: "الآن طابت نفسي".


الخلاصة

كان عمر وفيا للنبي ص في آله وخاصة بيته. وأمينا على مصلحة الإسلام بحيث تبقى مقدمةً على كل مصلحة خاصة أو عامة. وكل ما عدا ذلك لغو وباطل.


عمر والصحابة

وقفة عمر يوم السقيفة

لا ينبغي أن نستهين بحال المسلمين بعد وفاة النبي ص. لم يكن الموقف هينا بحال, بل كان جد عصيب. وحتى نتصور عظم الموقف وخطورته هلم نستعرض كوامن الخطر فيه:

مات النبي ص ولم يستخلف صراحةً وإن لمح إلى استخلاف أبي بكر بتلميحات واضحة لا تحتمل التأويل. وكان للأنصار ولآل البيت ما اعتبروه تلميحا أيضا. وعلى هذا انشقت الجبهة الداخلية إلى عدة جبهات هي:


جبهة المهاجرين

اعتبر المهاجرون أنفسهم الأولى بالخلافة لأنهم عشيرة النبي ص والسابقون للإسلام الذين قضوا مع النبي ص 13 ثلاث عشرة سنة لم تتح للإنصار, لاقوا فيها معه ابتلاء عظيما وتعلموا منه فيها ما لم يتعلمه الأنصار. ثم فيهم عمر الذي لم تغب عنه تلميحات النبي ص باستخلاف أبي بكر.


جبهة الأنصار

اعتبر الأنصار أنفسهم أولى بالخلافة. فالدار دارهم وهم الأكثرية والذين آووا النبي ص ونصروه لما خذله الناس. ثم هم يعتبرون أنفسهم قوم النبي ص لقوله بعد غزوة الطائف أنه امرؤ من الأنصار وأنه لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلك النبي شعب الأنصار.


جبهة آل البيت

وعلى رأسها اثنان لو شاءا أن يضعا العقدة في المنشار لفعلا لولا أنهما ليسا بدعاة فتنة, وهما علي والعباس. وقد نال عليٌ من ثناء النبي ما يجوز اعتباره تلميحا باستخلافه أيضا. 


جبهة ضعفاء المسلمين

كان الكثير من عوام المسلمين لا ينصرون ولا يخذلون, يقفون على شفير الفتنة لا يلبث أن يضطرب تحت أقدامهم حتى ينهار. وكان منهم الطلقاء والمؤلفة قلوبهم. وهؤلاء في كل زمان ومكان ينتظرون معجزة القدر ولا يحركون ساكنا.


جبهة العصبية القبلية

كان هناك مَن تعصب لقبيلته دون غيرها كأبي سفيان الذي أراد أن يسكب البنزين على النار فجاء عليا والعباس يثيرهما على أبي بكر فقال: "يا علي وأنت يا عباس, ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش؟ والله لو شئت لأملأنّها عليه خيلا ورجلا وآخذنّها عليه من أقطارها".

فقال علي قولة الزاهد في الإمامة المتبع لجماعة المسلمين: "لا والله لا أريد أن تملأها عليه خيلا ورجلا. ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا, ما خليّناه وإياها". 


جبهة المرجفين

وتضم المنافقين واليهود الذين رأوا أن الفرصة مواتية لضرب الإسلام في مقتل بعد وفاة نبيه ص.


في هذه الظروف المستعرة التي تنذر بالفتنة, يظهر عمر ابن الخطاب فتنتهي مسألة الخلافة بسلام, فيكون ذلك أعجوبة الأعاجيب. فما أن بايع عمرُ أبا بكر حتى بطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه, واطمأن من وافق, وعلم من خالف أن مخالفته لا تنفعه. وفي هذا بيان لقدر عمر عند الصحابة.


عمر وأبو بكر

يعرف أبو بكر قدر عمر فيرشحه للخلافة ليطفأ نار الفتنة قائلا له: "ابسط يدك نبايع لك". ولكن عمر الذى وعى تلميحات النبي ص يذكّر الحاضرين بها ليطفأ من جهته نار الفتنة فيقول لأي بكر: "لا ينبغي لأحد بعد رسول الله أن يكون فوقك يا أبا بكر. أنت صاحب الغار وثاني اثنين, وأمرك رسول الله حين اشتكى فصليت بالناس فأنت أحق الناس بهذا الأمر".

وكان أبو بكر يستشير عمر حتى قال الناس: "والله ما ندري ءأنت الخليفة أم عمر؟" فيقول: "هو لو شاء".


حروب الردة

عندما ارتد العرب بعد وفاة النبي ص, وقع الصحابة في حيرة كيف يتصرفون مع المرتدين. كان أبو بكر حاسما لم يتردد وقرر حرب المرتدين. وكان ثمة جبهة أخرى من كبار الصحابة ضد حرب المرتدين. فمع أي الفريقين كان عمر؟ لقد خالف عمر ما عُهد عنه من شدة على المخالفين وكان في معسكر المعارضين للحرب. ولم يكن ذلك عن ضعف منه وإنما وجد من الواجب عليه أن يوضح للخليفة وجهة نظر قد تكون غائبة عنه. حتى إذا ما أحاط الخليفة بالموقف من جميع جوانبه وأخذ القرار, كان عمر أول من ينفذ. أوصى عمر الخليفة بالتريث نظرا لوجود جيش المسلمين بقيادة أسامة في الشام, وطرح حل الاستتابة. فقال له أبو بكر: "رجوتُ نصرتك وجئتني بخذلانك؟ أجبار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟" ولكن عمر ما كان خوارا وإنما أراد إفراغ أمانة الرأي. فما هو إلا أن كما قال: "رأيتً الله شرح صدر أبا بكر للقتال حتى عرفتُ أنه الحق". وبهذا نفهم كيف كان عمر قوةً لأبي بكر موافقا ومخالفا. وقد أصاب فيما قال لأبي بكر يوم بايعه: "إن قوتي لك مع فضلك". فكانا خليفتين في خليفة. وأكرم بهيئةِ خلافةٍ جمعت قوة عمر مع فضل أبي بكر. 


استخلاف عمر

عرض أبو بكر الخلاف على عمر فقال له: "لا حاجة لي فيها".  فقال له أبو بكر: " ولكن لها بك حاجة"

آراء بعض الصحابة في عمر ابن الخطاب:

لما استشار أبو بكر كبار الصحابة في مسألة استخلاف عمر قالوا:

عبد الرحمن ابن عوف: "هو والله أفضل من رأيك فيه"

عثمان ابن عفان: "إن سريرته خير من علانيته وإنه ليس فينا مثله".

أسيد ابن حضير: "يرضى للرضى ويسخط للسخط, ولن يلي هذا الأمر أحدٌ أقوى عليه منه"

ولقد حذر بعض الناس أبا بكر شدة عمر من بعده, وهم  بذلك رغبوه ولم يحذروه. فأبو بكر يعلم أن الأمة بحاجة لعمر وشدته فيما هي مقبلة عليه. ثم بويع عمر بإجماع لم ينعقد لخليفة في التاريخ.

وقضى عمر مدة خلافته الطويلة فإذا مخالفيه ينقصون, ومحبيه يزيدون ويزدادون له حبا وتقديرا. 


قول بعض الصحابة بعد استشهاد عمر:

علي ابن أبي طالب: "أبكي على موت عمر, إن موت عمر ثُلْمة – أي خرق  - في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة. 

عبد الله ابن مسعود: "كان إسلامه فتحا وهجرته نصرا وإمارته رحمة". وقال أيضا يوم قُتِل: "لو أعلم عمر يحب كلبا لأحببته. والله إني لأحسب العضاة – شجر له شوك – قد وجدتْ فقد عمر".

معاوية ابن أبي سفيان: " أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده, وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها, وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن". 

عمرو ابن العاص: "لله در ابن حنتمة! أي امرئ كان!" ولم يخص عمرو عمرَ بصفة محددة كأن يقول: أي عادل كان أو أي حاكم كان! وإنما قال ما يفيد تكامل المحامد في عمر؛ أي أمرئ كان!


سياسة عمر مع كبار الصحابة

جمع منهم مجلسا للمشورة لا يُبرم أمرا أو ينقضه إلا بعد مشورتهم. فلم تكن أحاديث النبي ص قد دُونت بعد, ولربما سمع أحدهم من النبي ص ما لم يسمعه غيره.

ارتفع بهم أن يكونوا أتباعا له فجنبهم ولاية الأعمال, وقال لمن راجعه في ذلك منهم: "أكره أن أدنسكم بالعمل". فسبق بذلك الدساتير العصرية التي تمنع انشغال أعضاء مجلس الشعب بأعمال الدولة.

قدَّمهم على رؤساء وعظماء القبائل. حضر بابه يوما سهيل ابن عمرو وأبو سفيان مع صهيب وبلال, فأذن لصهيب وبلال قبل كبار القوم. فغضب أبو سفيان وقال لصاحبه: " لم أر كاليوم قط! يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه؟ أما صاحبه فكان حكيما فقال: "أيها القوم إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم, دُعي القومُ إلى الإسلام ودعيتم, فأسرعوا وأبطاتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركت؟

(وهذا سهيل ابن عمرو الذي أراد عمر نفسه يوم بدر أن ينزع ثنيته ليقعد عن الخطابة ضد الإسلام وكان مفوها, فقال النبي ص لعمر: عسى أن يقوم مقاما لا تذمه. وها هو أحد المقامات).

كان يقدم من يقدمه عمله ويؤخر من يؤخره عمله. وقد سبق سرد خبره مع أبي عبيد ابن مسعود لمّا نادى عمر في الناس ينتدب قائدا للقتال في العراق. فتخاذل الناس وكان أبو عبيد ابن مسعود أول من استجاب, فأعطاه عمر الراية لسبقه. وقد برهن أبو عبيد على جدارته باختيار عمر بانتصاراته الأولى. غير أنه في موقعة الجسر, خالف تعليمات عمر بالتريث وعدم المسارعة في الهجوم, فانهزم المسلمون واستشهد أبو عبيد. وإني أعدُّ هذا من أخطاء عمر المعدودات إذ ولى المتعجلَ قيادة الجيش. وقد سبق الاستشهاد بموقف النبي ص مع أبي عياش في غزوة ذي قرد.


 عمر وخالد ابن الوليد

لم يؤخذ على عمر مثل ما أُخِذَ عليه في مسألة عزل خالد ابن الوليد.

عدَّ بعض الصحابة قديما, وبعض الدارسين حديثا, مسألة عزل عمر لخالد ابن الوليد وهو في أوج مجده, من أخطائه. ومن ذلك قول أبي عمرو ابن حفص أحد أقرباء خالد لعمر: "والله ما أعذرتَ يا عمر, ولقد نزعت غلاما استعمله رسول الله, وأغمدت سيفا سلَّه رسول الله, ووضعت أمرا نصبه رسول الله, وقطعت رحما وحسدت بني عم".

والعقاد ينبري فيدافع عن عمر فيقول أن ما فعله عمر مع خالد لا يخرج عن الخط الذي انتهجه عمر مع سائر القادة والولاة, ألا وهو ترجيح حق الأمة على حق الأشخاص. فهو لم يشأ مع خالد أن يكيل بمكيالين.

وينفي العقاد دعوى من قال أن عمر عزل خالدا لأنه رآه ندا له. ولعل ما دعاهم إلى ذلك وجه التشابه بين الرجلين. فهما متشابهان خلْقا وخُلُقا. وإنما عزله كما قال هو: " لم أعزله لسخْطة ولا خيانة, ولكن الناس فُتنوا به, فخشيت أن يوكلوا به ويُبتلوا, فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وألا يكونوا بعرض فتنة". ويبالغ العقاد فيجزم أن الغريب لو أبقاه في الولاية وقد أخذ عليه ما أخذ من شأن تلك الفتنة المتوقعة. ويُرجع العقاد أسباب عزل خالد بعد فتوحاته الغير مسبوقة في التاريخ إلى أحداث وقعت زمن النبي ص وزمن أبي بكر وفي زمانه:

أما ما كان زمن النبي ص:

في فتح مكة, عندما قتل خالد نيفا وعشرين من قريش وهزيل منهم نساء إبّان فتح مكة. فلما سأله النبي ص: "ما حملك على القتال؟" وكان قد نهى عن القتال إلا لو قاتل القوم. فاعتذر خالد بأن رسول رسول الله قد أخطأ في تبليغه. وبالفعل أقر رسول رسول الله بالخطأ في توصيل الرسالة.

أرسل النبي ص خالدا إلى بني جذيمة ونهاه عن القتال إذا رأى مسجدا أو سمع آذانا. واستسلم بنو جذيمة. ولكن خالد أمر بهم فكُتفوا وقَتل منهم من قتل وأمر جنده بقتل الأسرى. ولم يصغ في ذلك إلى نهي عبد الله ابن عمر وسالم مولى أبي حذيفة. فرفع النبي ص يديه وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". أمر علي ابن أبي طالب فَوَدَى القتلى.

 

وأما ما كان زمن أبي بكر:

وجّه أبو بكر خالدا إلى بعض أهل الرِدة, فعزم خالد على المسير إلى مالك ابن نويرة ولم يأمره الخليفة بذلك. وعارضه الأنصار فقال لهم: " قد عَهِدَ إليَّ أن أمضي وأنا الأمير.... ولو ابتُلينا بأمر ليس فيه منه – أي من الخليفة – عهد إلينا, لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرُنا ثم نعمل به". ثم قصد مالكا ومن معه ولم يُكره الأنصار. فلما تمكنت سرية خالد من خيل مالكٍ, قتله, وقتل ضرار ابن الأزور وتزوج بامرأته وهو أمر تعايره العرب. فقال عمر ابن الخطاب لأبي بكر لما علم بالأمر: " إن سيف خالد فيه رهق - أي طغيان". فاعتذر له أبو بكر بأنه تأوَّل فأخطأ. ثم ودى القتلى واستدعى خالدا. فقدم خالد ودخل المسجد وقد غرز أسهما في عمامته للتباهي بالبطولة. فنزعها عمر وقال له: قتلتَ أمرءا مسلما ثم نزوت على امرأته؟ والله لأرجمنك بأحجارك."  

كان خالد في ولايته بالعراق يستأثر بتصريف المال على الوجه الذي يراه, فعزم أبو بكر على خلعه ولكن لم يجد له بديلا فقال: " أعجزت النساء أن يُنشئن مثل خالد؟" فقدَّم عمرُ نفسه بديلا لخالد إن كان من بُدّ, فمشى بعض الصحابة إلى أبي بكر وأوصوه بالاحتفاظ بعمر إلى جواره لحاجته إياه, والإبقاء على خالد ففعل.


وأما ما كان في خلافة عمر:

بلغ عمر أن خالدا وهب الشاعر الأشعث ابن قيس 1000 عشرة آلاف درهم. فكتب عمر إلى خالد أن يراجعه في حساب المال ولا يعطي شاةً ولا بعيرا إلا بأمره. فأخبره أن العمل يجري كما كان في خلافة أبي بكر. وكان خالد قد كتب لأبي بكر لمّا راجعه في حساب المال: "إمّا أن تدعي وعملي, وإلا فشأنك بعملك". ولكن عمر لم يتقبل من خالد ما تقبله أبو بكر وقال: " ما صدقتُ الله إن كنتُ أشرتُ على أبي بكر بأمر, فلم أُنْفِذْه". فأضمر عزل خالد.

أرسل عمرُ أبا عبيدة ابن الجراح ليحاسب خالدا في شأن مبلغ العشرة آلاف درهم وقال له: " إن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بالخيانة, وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف". وقدم أبو عبيدة على خالد وعقد مجلس المحاسبة, فنزع كل ما زاد عن أصوله وضمها لبيت المال. وقاسمه ماله نصفين حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة: "إن هذا مما لا يصلح قسمته". فأبى خالد إلا النزول عن أمر عمر وأعطاه إحدى نعليه.

وقد وقع عزل خالد عام سبعة عشر هجريا بعد فتح بيت المقدس, لأن اسم خالد كان من بين أسماء الشهود على عهد بيت المقدس.


حيثيات دفاع العقاد عن عمر

ترجيح مصلحة الأمة على مصلحة الفرد. فمصلحة الأمة مهددة بافتتان الناسِ ببطولات خالد فيُرجعون النصر إليه من دون الله. فتتسلل إلى الناس عقيدة الشرك.

كانت هذه سنة عمر مع جميع الولاة فلا يقال كال عمر بمكيالين.

كراهية عمر للإسراع في القتال. فهو القائل: " الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث".

حتى لا يُفتن خالد بإعجاب الناس به.

كان خالد يبتدأُ أمورا لا يستأذن فيها.

حب خالد للزهو والافتخار, كما فعل حين غرز الأسهم في عمامة لما عاد من حروب الردة.

الأخذ بالحيطة وتقديم الحذر.

استئثار خالد بتصريف مال ولايته.


حكم العقاد

قرار عمر قرارٌ صائب يناسب السنة العمرية. قرار طبيعي, ومن غيرالطبيعي ألا يتخذه. وفيه كسبٌ للعقيدة وكسب لقائد جديد, ثم ها هو خالد يمكن أن يعود في أي وقت حسبما تقتضيه مصلحة الدولة.


دفاعي عن خالد

سأورد حيثيات حكم العقاد وأعقب عليها كل على حدة.

ترجيح مصلحة الأمة على مصلحة الفرد. فمصلحة الأمة مهددة بافتتان الناسِ ببطولات خالد فيُرجعون النصر إليه من دون الله. فتتسلل إلى الناس عقيدة الشرك.

الذي أراه أنه لم يكن هنالك خطرا كارثيا يتهدد مصلحة الأمة. والذي فعله عمر كان على سبيل الحيطة والحذر. أما افتتان الناس بخالد فلا يعدو الإعجاب ببطولاته وفتوحاته. وعمر نفسه كان مثار إعجاب الناس وإلى اليوم كما الحال مع خالد. والمسلمون إنما يعلمون أن خالدا سيف الله المسلول من قول  قول النبي ص فيه. فالإعجاب هنا مؤسس على قاعدة شرعية تمنع رد انتصاراتِهِ إلى غير الله. ثم إن الحكمةَ تقتضي الإبقاء على الموظف الناجح لا عزله. ولقد مر بنا كيف انهزم أبو عبيد ابن مسعود في موقعة الجسر وكان من اختيار عمر.

كانت هذه سنة عمر مع جميع الولاة فلا يقال كال عمر بمكيالين.

ليست العبرة بطريقة الكيل. فقد يكون الكيل بمكيالين هو عين الحكمة عند بعض المواقف. والعبرة بالحكمة, فهي ضالة المؤمن. وخشية القول بالكيل بمكيالين لا تبرر اتخاذ قرار استراتيجي خاطئ. حتى على الوجه الغير محمود للكيل بمكيالين, فإن خالدا لم يأت ما يستوجب هذا القول, فلم يختلس مثلا أو يظلم. 

كراهية عمر للإسراع في القتال. فهو القائل: " الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث".

فرق بين الإسراع والتهور. لم يكن خالد متهورا, فلا يحقق مثل انتصاراته متهور. بل إن انتصاراته تثبت أن مكيث الحرب الذي يحبُ عمرُ.

حتى لا يُفتن خالد بإعجاب الناس به. لاسيما وخالد يحب الزهو والافتخار, كما فعل حين غرز الأسهم في عمامة لما عاد من حروب الردة.

كل عبقري عرضة لأن يُفتن بنفسه. ولكن أقل الناس عرضة لهذا هم أصحاب النبي ص الذي رباهم على عينه. وإن بدا من خالد بعض الزَّهو –القتالي إن صح التعبير - فهو محمود, كزهو أبي دجانة لما تبختر بعصابته الحمراء يوم أحد, فقال النبي ص: " هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموقف".

كان خالد يبتدأُ أمورا لا يستأذن فيها.

وقع هذا من خالد زمن أبي بكر ولم يُذكر مثله زمن عمر. ولخالد في ذلك حجة قوية كما قال هو: "ولو ابتُلينا بأمر ليس فيه منه – أي من الخليفة – عهد إلينا, لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرُنا ثم نعمل به." فهو يجتهد حيث لا أمر بيِّنا من الخليفة. ثم هو بعد ذلك يرى نفسه أهلا لذلك.

الأخذ بالحيطة وتقديم الحذر.

الأخذ بالحيطة والحذر واجب قومي خُصِّصت له في عصرنا الحال أجهزته الخاصة كالمخابرات بفروعها. والعهد بهذه الأجهزة الأخذ بما يريب من الدلالات السلبية لا الإيجابية, كالتخابر مع الأعداء والتجسس وما إلى ذلك. حتى لو احتطنا لأمر إيجابي نخشى تداعياته, فلا نهدم صرحا خشية فأر مر بجواره.

استئثار خالد بتصريف مال ولايته.

أما بخصوص هذه الحيثية, فيكفي أن نعلم أن خالدا لما مات, لم يعقب غير فرسه وغلامه وسلاحه. وقد أساء معاوية التصرف في مال الدولة فوهب أباه أبا سفيان 10000 عشرة آلاف درهم, فاستردها عمر من أبي سفيان ودفع بها إلى بيت مال ولم يعزل معاوية وكان له عليه أكثر من مأخذ.


قول عمر لما مات خالد:

"قد ثُلِم في الإسلام ثلمة لا تُرتق. كان والله سدادا لنحور العدو, ميمون النقيبة". ولما اجتمع بناتُ عمه يبكينه قال عمر: "دعهن يبكين أبا سليمان, على مثله تبكي البواكي". وقال يرثيه: "رحمه الله, إن كان ليُحب أن يذل الشرك وأهله. وإن كان الشامتُ به لمتعرضا لمقت الله. رحم الله أبا سليمان. ما عند الله خير له مما كان فيه". وفي روايه أنه لما سئل: "لم يكن هذا رأيك فيه". قال معترفا: "ندمتُ على ما كان مني إليه". 

أمَا وقد قال عمر ذلك, فلا يخفى ما فيه من اعترافٌ بخطئه فيما كان منه تجاه خالد. ولكني أراه من الأخطاء التي تدفع إليها شدة الحرص على تمام السلامة. والأمر عندي – كمهندس مدني – كأن رأيتُ تآكلا في إحدى قواعد منشأ, فلما تَحَرَّيّْتُه إذا بدابة الأرض (النمل الأبيض) تنشط في هذه القاعدة. والمعروف أن النمل الأبيض يخترق الإسمنت, فخشيتُ وجود مستعمرة منه تنخر في أساسات المبنى مما يهدده بالسقوط. فسارعتُ بالحفر لكشف جميع قواعد المنشأ. فتبيّن لي أن النمل الأبيض يعشش فقط في قاعدة واحدة على نحو بسيط ولم يستشرِ في سائر القواعد. فتم علاج التآكل بالطرق الهندسية السليمة, واتضح لي أنه لم يكن هناك داع لعملية حفر واسعة, وكان يمكن فحص القاعدة الموبوءة أولا, فإن استلزم الأمر فحصنا الأقرب لها فالأقرب. ولكنها شدة حرصي على تمام سلامة المنشأ. 


وانهى العقاد الفصل بقوله عن خالد: "استحق المجد بيقين واستحق العزل بظن". فما أجمل هذا القول وقد كتب العقاد في عبقرياته عن "عبقرية خالد".


ثقافة عمر  

كان عمر وافر الحظ من ثقافة زمانه. كان مثقفا تاريخيا وأدبيا ووفقهيا وفنيا ورياضيا. 

كان يحب الشعر ويسمعه. ويحب مجالسة حكماء الأدباء الذين ينتقون أطايب الحديث. يحب الإبانة والمنطق الحصيف. رأى يوما متباريين في الرماية أخطئا في لسان العرب فقال لهما: لخطأكما في لسانكما أفدح عندي من خطئكما في لسانكما.

وكان عليما بتاريخ العرب أيامها ومفاخرها وأنسابها.

وكان فقيها بالشريعة التي هو مسؤول عن تنفيذها. قال عبد الله ابن مسعود: " كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله". وإذا اختُلف في قراءة آية قيل: " إقرأها كما قرأها عمر". وقد مضى بنا كيف وافقه الوحيُ في أكثر من مناسبة.

وكان معلما ومربيا يضع قواعد التعلم حيث يجب أن توضع فهو القائل: " تعلموا العلم. وتعلموا للعلم السكينة والحِلم. وتواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تُعلّمون. ولا تكونوا جبابرة العلماء, فلا يقوم علمكم بجهلكم". و "كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم. واسألوا الله رزق يوم بيوم, ولا يضيركم ألا يُكثِر لكم". و "فتفقهوا قبل أن تسودوا", وما أجمل هذا القول! فسيادةٌ بدون فقه مهلكةٌ في رأيي.

وكان منفتحا على الجديد من الاختراعات. وكان أبو لؤلؤة المجوسي -  الذي قتل عمر – بارعا في شتى الصناعات, فعرض على الخليفة تصميم طاحونة تدار بالهواء, فوافق وشجعه على ذلك.

وكان بارعا في علم السيكولوجي – وهو علم النفس – فكان يتمتع بنفاذ البصيرة وصدق الخبرة بدخائل النفس البشرية. وله في ذلك أقوال حفظها لنا التاريخ نذكر منها:

"ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر, ولكنه الذي يعرف خير الشرَّيْن".

"ما وجد أحدٌ في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه" وهذا أصل ما يُعرف في علم النفس بمركب النقص.

"لا تعتمد على خُلُق رجل حتى تجربه عند الغضب"

"إذا توجّه أحدُكم في الوجه ثلاث مرات فلم ير خيرا فليدعه"

"من كتم سره كان الخيار بيده"

"لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا"

"أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكره من السُكْر"

"إذا أصاب أحدكم ودا من أخيه, فليستمسك به. فقلما يصيب ذلك".

ولنا في كل واحدة من هؤلاء بابٌ عريض من أبواب علم النفس.


 كان مثقفا جغرافيا يراعي جغرافية البلدان كما قال عن القادسية مخاطبا سعد ابن أبي وقاص: "... وهو منزل رغيب حصيب دونه قناطر وأنهار ممتنعة". وكتب له أيضا: "صف لي البلد الذي بينكم وبين المدائن صفة أنظر إليها. واجعلني من أمركم على الجلية". وعزل عمار ابن ياسر من ولاية الكوفة لما تبين له أنه يجهل جغرافية ما يحكم.

حاول بعض المشككين الطعن في قدرة عمر على الحساب متذرعين بقوله لأبي هريرة لما أتاه من البحرين بخمسمائة ألف درهم 500000: "وتدري كم 500000 درهم؟". وأخطأ من حمل هذا السؤال على الجهل. وإنما لا يصح إلا حمله على الاستغظام والغبطة.

عمر والسماع. 

يقول العقاد أن قلة هم من يتخيلون أن عمر كان يحب الغناء والسماع. ولكنه كان يسمع ويغني في بعض الأحيان إلا ما كان فيه غواية تثير الشبهات. ومن الشواهد على ذلك ما يلي:

جيء له برجل يغني في الحج فقال: "دعوه فإن الغناء زاد الراكب"

خرج يوما في ركب مع عثمان وابن عباس وفيهم رباح ابن المعترف الفهري يجيد الغناء والحداء. فسألوه ذات ليلة أن يحدو فقال مستنكرا: "مع عمر؟". فقالوا: "احْدُ فإن نهاك فانْته". فحدا حتى إذا دخل السحر قال له عمر: "كف فإن هذه ساعة ذكر". وفي الليلة الثانية سألوه غناء العرب فغنى حتى إذا دخل السحر قال له عمر مثل قولته الليلة الماضية. وفي الليلة الثالثة سألوه غناء الجواري. فما هو إلا أن رفع عقيرته حتى نهاه عمر قائلا: "كف فإن هذا ينفِّر القلوب". رواه نائل مولى عثمان ابن عفان.

خرج مرة للحج في ركب وفيهم المغني خوّات ابن جبير. فسألوا خوات أن يغنيهم من شعر ضرار. فقال عمر: " بل دعوا أبا عبد الله فليغني من بَنِيَّات فؤاده". فما زال يغنيهم حتى دخل السحر فقال له عمر: " إرفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا".


كان من ثقافة عمر احترام وفاء الآخرين للعهد. فقد آلى بلال على نفسه ألا يؤذن بعد وفاة النبي ص. وكان عمر يحترم ذلك. ويوم وداع دمشق بعد الفتح المبين دعاه عمر للآذان بهذه المناسبة واستجابةً لرغبة الصحابة. فإذا بالصوت الذي انقطع بعد وفاة النبي ص, يرتفع إلى السماء ويسري إلى الصدور وكأن النبي ص قد عاد إلى الأرض. فعاد الحنين لزمانه فذابت القلوب وبكى أشيب الأبطال وأصبرهم على حر القتال.

في مجال الرياضة كان عمر يصارع في المواسم ويسابق على الخيل. وهو القائل: "علموا أولادكم السباحة والفروسية". وفي رواية " السباحة والرماية وركوب الخيل".

أما الخَطابة فقد كانت في عمر من صفات بِنْيَته لا من مهاراته فحسب. فكان يملأ فمه بالكلام بصوت جهوري واضح النطق سليم الشفتين. وكانت كتابته لعماله خطب مكتوبة, تقرأها كأنك تسمعها. وكان له تعبيرات لُغوية غير مسبوقة يصح أن يطلق عليها التعبيرات العمرية. وقد أسهب العقاد في ذكرها في أكثر من ثلاث صفحات, ونذكر منها مثالين منها تقيس عليهما وهما قوله: " الحريب من حُرِب في دينه", أي المسلوب من سُلِب في دينه. وقوله في امرؤ القيس: "... وخسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر", أتى في شعره بالشوارد الحِسان.


هل أحرق عمر المثقف مكتبة الإسكندرية؟

يزعمون أن عمرو ابن العاص رفع إلى الخليفة خبر المكتبة الكبرى بالإسكندرية فجاءه الجواب بما نصه: " أما الكتب التي ذكرتَها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى. وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إيه, فتقدم بإعدامها". فوُزّعت الكتب على 4000 أربعة آلاف حمّام بالمدينة ومضت 6 ستة أشهر قبل أن تُستنفذ لكثرتها.


يعتبر العقاد هذه القصة ملفقةً للأسباب التالية:

حنا فلبيوتوس الذي قيل أنه خاطب عمرو ابن العاص في أمر المكتبة لم يكن حيا عندما فتح العرب مصر.

كانت كتب القرن السابع الميلادي من جلود الرق واحتراق الجلود ليس باليسير.

كان من الأيسر حرق الكتب في مكانها دون تكلف عناء نقلها إلى الحمامات.

دخلت قصة حرق عمر لمكتبة الإسكندرية التاريخ بعد خمسة قرون نصف (550 عاما)  من فتح الإسكندرية وخاليةً من المصادر والإسناد.

ذكرت بعض المصادر القبطية أن المكتبة أحرقت عام 48 ميلاديا.

يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون في كتابه الدولة الرومانية: "أما أنا من جانبي فشديد الميل إلى إنكار الحادثة وتوابعها على السواء."

 ويقول المستشرق كزانوفا: " ... وهناك اعتراض أخطر مما تقدم وهو أن ما ذُكر عن يحيى النحوي, منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر. وفيه أن يحيى هذا عاش حتى فتحت مصر وكان مقربا من عمرو ابن العاص ولم يذكر شيئا عن مكتبة الإسكندرية, فحادثة المكتبة إذاً من أوهام ابن القفطي أخذها عن خرافة كانت شائعة في عصره". يقول جورجي زيدان زاعما صدق الواقعة: "ثم نقلها أبو الفرج الملطي وكان نصرانيا عن ابن القفطي. وابن القفطي هذا قاض وعالم مسلم عاصر زمن صلاح الدين الأيوبي".  

ثم يبرع العقاد في تحليله حين يقول أن هذه المكتبة لم يكن بها ما ينفع الأمم ويقيم الحضارات وإلا كان انتفع بها الروم والقبط. فقد كان الرومان والقبط على شر حال من الضعف والفساد والتخلف والجهل والشقاق إبّان الفتح الإسلامي لمصر. وحتى على افتراض أن عمر قد أمر بحرق المكتبة, فأي خطأ في حرق كتب في فرع وحيد من العلوم وهو الفلسفة اليونانية, يُخاف أن تصرف المسلمين – وقد انتشروا في الأرض - إلى كتبٍ لا يؤمن ما فيها, فينزوي القرآن في صدورهم كما انزوت التوراة والإنجيل في صدور أتبعهما؟. وأي غنيمة روحية تلك التي تعدل ما في كتاب الله؟ ثم هل في هذه الكتب من قيمةٍ روحية أو حضارية نفعت أهلها؟






عمر في بيته

كان حاكمُ الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر, صاحبُ الغلبة على الأكاسرة والقياصرة والفراعنة, يعيش في بيته عيشة الكفاف, يرضى بالغليظ من الغذاء والكساء. فكان من الطبيعي أن تزهد في مثل هذا العيش النساءُ فيأبيْن الزواج منه. وقد أبى هذا العيش من هنَّ خير منهنّ؛ نساء النبي ص, فلم يقبلنه إلا وقد خُيِّرن بينه وبين الله ورسوله والدار الآخرة. فنحن أمام حاكم يطلب امرأة للزواج, فتجرأ على رفضه لتواضع عيشته دون أن تخاف صولته. وبذلك يكون رفضُ امرأة واحدة شاهدا له أفضل من قبول مائة امرأة.

خطب أم إبان بنت عتبة ابن ربيعة فقالت إنه رجل: " أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه, كأنه ينظر إلى ربه بعينه". ولم تقل امرأة في عمر أبلغ من هذا.

وخطب أم كلثوم بنت أبي بكر من إختها عائشة فأبته قائلة: "إنه خشن العيش شديد على النساء". فتحرّجت عائشة من أبلاغه, فأوكلت ذلك إلى عمرو ابن العاص ليحتال على عمر في إبلاغه. فجاءه عمرو وقال له:

 بلغني خبر أعيذك بالله منه.

ما هو؟

خطبتَ أم كلثوم بنت أبي بكر؟

نعم, أفرغبتَ بي عنها أم رغبتَ بها عني؟

لا واحدة. ولكنها حَدِثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين – يعني أبي بكر – في لين ورفق, وفيك غلظة. ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك, فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوتَ بها؟ كنت قد خلفتَ أبي بكر في ولده بغير ما يحق عليك. أنا أدلك على خير منها, أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب, تعلق منها بنسب رسول الله.

وأم كلثوم بنت علي حدثة أيضا, ولكنها تصبر على عيش عمر. وخشونة عمر التي ذكرتها بنت أبي بكر ليست نقيض العطف والرحمة وإنما هي نقيض النعومة. فرحمة عمر رحمة في غلاف. لا تطول بك عشرتُه حتى ينقشعَ هذا الغلاف عن قلب وديع مفعم بالعطف والمودة. وهذا هو سبب حب نسائه له وتمسكهن به رغم شظف عيشه. وكانت زوجته جميلة لا تطيق فراقه, فإذا خرج مشت معه حتى باب الدار فقبلته وما زالت في انتظاره حتى يرجع. وكاد عقل زوجته عاتكة بنت زيد أن يذهب لما استشهد وهي التي قالت في رثائه:

رؤوفٌ على الأدنى غليظٌ على العدا  *  أخي ثقة في النائبات منيبُ

متى ما يقل لا يكذبُ اللهَ قولُه     *  سريع إلى الخيرات غير قطوب

وقالت:

يا ليلةً حُبست عليَّ نجومُها  *  فسهرْتُها والشامتون هُجودُ

قد كان يُسهرني حَذراك مرةٍ *  فاليومَ حقَّ لعينيَ التسهيدُ


وأكثف ما تكون الدروع, أرق ما يكون الموضع الذي يليها وأخوفه من الإصابة. فالمحارب يكثِّف دروعَه ناحية القلب. وعمر كثَّف دروعه ناحية المرأة. كان عمر شديد الغيرة على المرأة حتى عُدَّت من دلائل شدته.

وكان أبا يحب أبناءه ويعرف وجْد الأباء بالأبناء. بل وينزع الثقة من والٍ لا يحنو على صغاره. أمر بكتابة العهد لوالٍ فجاء صبيٌ فأجلسه في حجره وأخذ يلاطفه ويقبله. فقال المرشح للولاية: "إن لي عشرة أولاد ما قبلتُ أحدا منهم ولا دنا أحدهم مني". فقال عمر: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وأمر بالولايه لغيره, فكيف يرحم الرعية من لا يرحم أولاده؟

واشتاق والدُ كلاب ابن أمية لابنه وكان يقاتل في غزوة, فكتب عمر إلى قائد الجيش فأرسل كلابا. فسأله عمر: "ما بلغ من برك بأبيك؟ قال: " كنت أعتمد أغزر ناقةٍ وأسمنها فأريحها ثم أغسل أخلافها حتى تبرد, ثم أحلب فأسقيه". ثم بعث إلى أميه فجاء يتراوح في مِشيته ضعيف البصر محني الظهر. ثم جاءه بلين حلبه ابنه بطريقته, فلما أدنى الرجل الإناءَ من فيهِ قال: " لَعَمْرُ الله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة كلاب في هذا الإناء". فقال عمر: "هذا كلااب عندك حاضر قد جئناك به". فوثب إليه ابنه وطفق الأب يضمّه ويقبله. وبكى عمر وأمر كلابا أن يلزم أبويه ما بقيا وله عطاؤه كأنه على جبهة القتال.

وحدَّث سنان ابن سلمة أنه في صباه كان يلتقط البلح في أصول النخل مع بعض الصبية إذ أقبل عمر. فتفرق الغلمان وثبت سنان في مكانه, ثم دنا نحو عمر قائلا: " يا أمير المؤمنين, إنما هذا ما ألقت الريح". فقال عمر: "أرني أنظر". فنظر ثم قال: " صدقتَ". وخاف سنان الصبيةَ على ما لديه من بلح, فطلب من عمر أن يُبْلِغَهُ مأمنه. فمشى معه حتى بلَّغَهُ بيتَه.


مسألة وئد عمر لابنته

صعبٌ حتى على الذين يصدقون أي شيء وكل شيء, أن يصدقوا أن مثل عمر الذي عشنا معه الكتيب, قد وئد بنتا له في الجاهلية على تلك الصورة البشعة التي انتقلت إلينا في بعض الروايات. وخلاصتها أن عمر كان جالسا مع أصحابه فضحك قليلا ثم بكى. فلما سئل في ذلك قال: كنا في الجاهلية نصنع صنما من العجوة ثم نجوع فنأكله. وهذ سبب ضحكي. أما بكائي فلأنه كانت لي ابنة فأردت وأدها فأخذتها معي وحفرت لها حفرة فصارت تنفض التراب عن لحيتي فدفنتها حية. 

يشكك العقاد في صحة القصة كلها. فواضع القصة أراد التفرقة بين عمر في الجاهلية وعمر في الإسلام. وعلى طريقة كتّاب الدراما, وضع لها هذه النهاية الدراماتيكية ليستدر دموع القراء. ويُرجع العقاد نفيه لهذه القصة إلى الأسباب التالية:

لم يكن الوأد بالعادة الشائعة في جميع القبائل العربية. ولم يشتهر به بنو عدي خاصة, ولم يُعرف عن أسرة الخطاب. فقد عاشت في هذه الأسرة فاطمة أخت عمر وحفصة ابنته الكبرى وقد ولدت قبل الإسلام بخمس سنوات ولم يئدها.

كانت عملية الوئد تتم بعد ولادة الطفلة مباشرة أو بفترة قصيرة. فأنّى لطفلة في هذا العمر أن تفهم كيف تنفض التراب عن لحية أبيها؟ 

لو صحت هذه القصة, فلم لم يذكرها أحدٌ من إخوانها وأخواتها ولم ترد على لسان أحدٍ من الأعمام والأخوال؟


عمر والمرأة

من حق المرأة عند عمر ألا تُكره على زواجٍ لا تريده. سمع مرةً أعرابية تنشد:

فمنهن من تُسقى بعذب مبرَّد *    نُقاخٍ, فتلكم عند ذلك قرَّتْ

ومنهن من تُسقى بأخضر آجنٍ *  أجاج, ولولا خشية الله فرَّتْ

 فتوهم في زوجها عيبا فأرسل في طلبه فإذا هو كريه رائحة الفم. فخيَّره بين 500 خمسمائة درهم وطلاقها, فاختار الدراهم.

أقول: وما أفزع عمر إلا علاقةٌ زوجيةٌ تهدد بسقوط خشية الله.

وسمع امرأة تنشد من وراء بابها:

تطاول هذا الليل تسري كواكبه  *  وأرَّقني ألا خليلٌ أداعبه

فوالله لولا اللهُ لا شيء غيره  *  لزلزلَ من هذا السرير جوانبه

فسأل عن زوجها فعلم أنه طالت غيبته في غزوة. فأمر ألا تُطال غيبة الأزواج في الغزوات.

أقول: وما أفزع عمر إلا سياسةُ دولة تهدد بشيوع الفاحشة في المجتمع.

وكان يقبل شكوى المرأة من زوجها الذي يهمل نظافة بدنه وزينته. لأنهن "يحببن أن تتزينوا لهنّ كما تحبون أن يتزينَّ لكم"

وقبل شكوى امرأةٍ من زوج لم يبن بها, لأنه يخضب شعره يوهمها أنه شاب, فأوجعه ضربا وقال له: "غررتَ القوم".

وللمرأة أن تكتم من سيرتها ما تتحرج من ذكره, إن خشيت أن يعوق الزواج. فكاشفه رجلٌ أن ابنته أصابها حدٌ من حدود الإسلام, فهمَّت بالانتحار فأدركها أهلُها وقد قطعت بعض أوداجها. فبرأت وتابت واستقامت على الهداية. فسأل عمر: "ءأخبرُ القومَ الذين يخطبونها بما تقدم من سيرتها؟" قال له عمر: " ويلك! أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرتَ بشأنها أحدا لأجعلنّك نّكالا. أنكحْها نكاحَ العفيفة المسلمة".

أقول: أذهلتني غيرة عمر على الفتاة بحيث يجعل أبيها نكالا إن هو أفشى سرها. مثل هذه الفتاة؛ مع أيهما تشعر بالأمان أكثر؛ والدها أم عمر؟

همَّ رجلٌ بطلاق امرأته لأنه لم يحبها. فقال له: أَكُلُّ البيوتِ تُبنى على الحب. فأين الرعاية والتذمم؟".

وهذا معروف وبرٌّ بالزوجات لم تعرفْه متحذلقاتُ العصر المناديات بحرية المرأة. ودعامة متينة في بناء الأسر وتعمير البيوت. فالرعاية والتذمم أدوم من الحب والغرام, لأن الحب منوط بالأهواء التي تتغير من آونة لأخرى, بينما الرعايةُ والتذمم مناطُها الأخلاقُ التي نَدُرَ أن تتغير.

نهى الناس عن الزيادة في مهور النساء عن 40 أربعين أوقية. فصاحت امرأة من صفوف النساء: "ما ذاك لك!" فلم يأنف أن يستوضحها: "ولم؟". قالت: "إن الله يقول: "وَإِنْ أَرَدتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍۢ مَّكَانَ زَوْجٍۢ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًۭا فَلَا تَأْخُذُوا۟ مِنْهُ شَيْـًٔا ۚ أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَـٰنًۭا وَإِثْمًۭا مُّبِينًۭا "" النساء: 20. فرجع عن خطئه واعترف بصوابها.

لا تتدخل الزوجة في عمل زوجها وفيما لا تفهم من أموره. تشفَّعت له امرأته في وال مقصِّر فسألته: "فيم وجدتَ عليه؟". فقال لها غاضبا: " وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يُلعبُ بك ثم تُتركين". كلمةٌ صعبةٌ لا تَلبس القفاز الناعم. ولم يُخلق القفاز الناعم ليُلبس في كل حين.

لا تعلو كلمةُ الزوجة على كلمة زوجها. قال عمر عن أهل المدينة: "...كنا معشر قريش نغلب النساء. فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار. وصِحْتُ على امرأتي فراجعتني. فأنكرتُ أت تراجعني. قالت: ولم تنكرُ أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعْنه وإن أحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني..."

حقَّ لعمر أن يفزع من سلوك المرأة هذا. وما كان عمر ليفزع من أمر لا يَفزع النبي ص له. ولكنْ فرق بين سلوك النبي الذي يؤم أتباعه وسلوك عمر الذي يأتم بالنبي ص.

لا ينبئك عن شأن الرجل مع النساء كما ينبئك رأيهن فيه. فهذه هي سيدة نساء عصرها السيدة عائشة تقول عن عمر إنه نسيج وحده. وجمعت الشفاء بنت عبد الله بعض صفاته فقالت:" كان إذا تكلم أسمع, وإذا مشى أسرع, وإذا ضرب أوجع,  وهو الناسك حقا". وصاحت أم أيمن مرضعة النبي ص يوم طُعن: " اليوم وَهَى الإسلام". 


زوجات عمر

ليس لدينا بيان وافٍ عن زوجات عمر. غير أنه ما فاتنا الكثير إذا علمنا – في ضوء شخصيته – ما يعجبه في النساء وما لا يعجبه, ومتى يتزوج ومتى يطلق. ونعلم من نسائه:

قريبة بنت أبي أمية.

جميلة بنت ثابت وسميت بهذا الاسم لجمالها.

عاتكة بنت زيد وقد أعطيت شطر الجمال مع البلاغة ورجاحة العقل.

أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب.

وقد طلق عمر قريبة وجميلة وقد اشتهرتا بالجمال. ويُرجِّح العقادُ سبب ذلك إلى عدم تحمل عمر لدلال الجميلات. وأبقى على عاتكة التي تفوقهما جمالا لرجاحة عقلها.

وأحب أن أزيد سببا آخرا؛ وهو أن الجميلات عادة لا يتحملن شظف العيش, وقد كان عمر زاهدا في عيشه, ملزِما بهذا الزهد أهله.

وفي قصته مع ابنه من طليقته جميلة أكثر من عبرة. حدث ذلك في خلافة أبي بكر. فرآه يوما يلعب مع الصبيان فحمله وضمه, فأدركته جدته الشموس وجعلت تنازعه الولد حتى انتهيا إلى أبي بكر. فقال له أبو بكر: " خلِّ بينه وبينها فهي حاضنته". فرده عمر ولم يراجعه بكلمة.

ففي هذه القصة القصيرة عطف الأبوة عندما ضم الطفل, وسورة الطبيعة عندما نازعها إياه, والمثوبة إلى الحق في لحظة لما سمع كلام أبي بكر. وهذا هو عمر في شتى نواحيه.

ويَبْرَعُ العقاد في التحليل عندما يرجح أنه قد يكون من أسباب طلاق جميلة أنها من أسرة تباهي بدلال بناتها, مما يُنشِّئُ البنتَ على الغرور والاعتراض. استشف العقاد هذا من اسم البنت واسم أمها؛ فاسم البنت الأصلي "عاصية" وسماها النبي ص "جميلة" بعد إسلامها, واسم امها "الشموس".

ورزق عمر البنين والبنات وكانوا عنده بمكان الحب والمودة. وكان يجمعهم إذا نهى الناس عن أمر فيبلغهم أنه نهى عنه, ويقسم لئن فعله أحد منهم ليضاعفنّ عليه العقوبة!

وعند موته سأل عن ديونه وأوصى بسدادها. فلم يُدفن حتى أشهد ابنُه عبد الله أهلَ الشورى بسداد ديونه وبراءة ذمته. 

فعجبا لرجل يحكم دولةً في مثل مساحة أمريكا, يموت مديونا. ألا رضي الله عن عمر.


صورة مجملة

يختم العقاد كتابه القيم بباب "صورة مجملة", يُجمل فيه ما سبق تفصيلُهُ ويذكر حادثة مقتل عمر رضي الله عنه. ونحن هنا نجمل هذه الباب في اللمحات التالية:

صحبنا عمر في جاهليته وإسلامه, وفي سره وعلانيته, وفي بيته وحكومته, وفي دينه وثقافته. وفي علاقته بالناس وعلاقته بالله. فإذا هو رجل عظيم من معدن العبقرية والامتياز, وصاحب أخلاق من أنبل الصفات الإنسانية على اختلاف العصور.

ترسخت خليقة العدل عند عمر حتى لكأنها وظيفة عضوية عنده.

لم يشعر أحد بالكراهية نحو عمر لتجرده من العنصر الشخصي "الأنا", الذي ينجم العداءُ عن الإحساس به والمقابلة بمثله. والذين كانوا يذوقون عقاب عمر, لم يشعروا بعمر معاقبا صوّالا, وإنما شعروا بميزان الشريعة منصوبا فوق رؤوسهم.

استخلف عمر قائمة من ستة رجال يكون الخليفة من بينهم بالشورى. وهم:

علي ابن أبي طالب

عثمان ابن عفان

سعد ابن أبي وقاص

عبد الرحمن ابن عوف

الزبير ابن العوام

طلحة ابن عبيد الله


أقول: وكان أبو بكر في سقيفة بني ساعدة قد رشح أبا عبيدة ابن الجراح مع عمر مما يُفهم منه أنه يرشحه بعده. لذلك قال عمر: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته. ولكنه كان مات.

أما طلحة فلم يحضر مجلس الشورى. وتمسك الخمسة الباقون بترشيحهم. ثم انسحب عبد الرحمن مقابل أن يقبل الباقون بترشيحه , فوافقوا. وبعد مشاورات مطولة جاوزت المدة التي حددها عمر قبل استشهاده للاستقرار على خليفة, برز علي وعثمان يتنافسان. فأخذ عبد الرحمن على كل منهما العهد: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين من بعده؟

فأما علي فتحفظ قائلا: أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. مما قد يفهم منه أن له استراتيجية قد تختلف عن استراتيجية الخليفتين.

أما عثمان فقال: نعم.

فوضع عبد الرحمن يده في يد عثمان فبايعة وبايع بعده المسلمون.

فالذي أراه والله أعلم ما يلي:

أن عمر لم يضع العمل بسنة الخليفتين شرطا للخلافة. فما كان لعبد الرحمن أن يضع شرطا من عنده.

من أخطاء عمر التي تحصى على أصابع اليد الواحدة, أنه جعل عثمانا من المرشحين رغم ما يعلمه عنه من ضعف الشخصية.

مناقب عثمان الكثيرة وزواجه من ابنتي النبي ص شيء, والحكم وتبعاته شيء آخر.

خالف عثمان شرط عبد الرحمن ابن عوف باتباع سنة الخليفتين. فهل كان من سنة عمر محاباة الأقارب وعدم محاسبة الولاة؟ أين ذلك من مقولة عمر: أرأيتم إذا استعملتُ عليكم خير من أعلم, ثم أمرته بالعدل. أكنتُ قضيتُ ما عليَّ؟. قالوا: نعم. قال: لا. حتى أنظر في عمله, أعمل بما أمرته أم لا.

أثبتت الأيام أن خلافة عثمان قد جرت على الأمة ويلاتٍ وفتنا كانت في غنى عنها.


سأل عمرُ ربه الشهادة في آخر حِجة حجها. فقد أناخ بالأبطح ثم كوَّم كومة من تراب وألقى عليها طرف ردائه واستلقى عليها ورفع يديه إلى السماء ودعا ربه: " اللهم كبَرَتْ سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مُضِّيع ولا مُفرِّط, اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك". فكأنما سيق إليه أبو لؤلؤة المجوسي سوقا. فقد رزق اللهُ عمرَ الشهادةَ على يد مولىً فارسي هو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي, تواطأ أبو لؤلؤة مع الهرمزان وجُفيْنة  - وكلاهما فارسي - على قتل عمر في صلاة الفجر, وكلهم شديد الحقد على عمر الذي أزال عرش كسرى ومحا دولة فارس من الوجود. لم ينس أبو لؤلؤة ذلَّ الفرس على يد العرب, فكان يمسح على رأس أسرى فارس كلما جيء بأحدهم إلى المدينة متوعدا المسلمين أجمعين.


 اللحظات الأخيرة في حياة عمر

وقف عمر في صلاة الفجر يسوّي الصفوف. فلم يكد يؤم الناس حتى فاجأة القاتل بطعنتين إحداهما في كتفه والأخرى في خاصرته خرقت جدار بطنه وكانت القاتلة. لم يشغله قدوم الموت عن الصلاة, فانتدب لها عبد الرحمن ابن عوف ليكملها. ثم جعل يُغمى عليه ولا يعي ما حوله. فقال بعض عارفيه: "إنكم لن تُفزعوه بشيء مثل الصلاة إن كانت به حياة". فنودي: "الصلاة الصلاة". فانتبه وفتح عينيه بصعوبة وفاه بكلمات قليلات: " الصلاة! ها... الله... إذاً... لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة". ثم حُمِل إلى منزله ثم سأل عن القاتل مخافة أن يكون فعلها لمظلمة له عليه. فلما علم أنه مجوسي, قال: " الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط... ما كانت العرب لتقتلني".  وسقوه نقيع التمر فخرج من الجرح كما هو – يدل ذلك على أن الجرح نافذ – وجاؤوه بالطبيب, فَكَرِهَ أن ينظرَ في أمر نفسه قبل النظر في أمور الناس. فلما أشار عليه الطبيب أن يعهد, علم أنها الخاتمة فأوصى بالشورى في الست الذين رشحهم للخلافة, ونئا بأهله عن الخلافة. ثم التفت إلى أموره الشخصية بعد ذلك فأوصى بسداد ديونه, وأرسل ابنه عبد الله إلى السيدة الشريفة عائشة يستئذنها في أن يدفن بجوار صاحبيه, فوجدها تبكي لمصاب الأمة, فسلم عليم واستأذنها فأذنت له وقالت: "كنتُ أريده لنفسي, ولأوثرنّه اليوم على نفسي".

واشتد البكاء كأن الناس لم يصابوا بمثلها, قال شهود دفنه : "فلما حُمِل كأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ".


"مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌۭ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبْدِيلًا"

صدق الله العظيم


تعليقات