قصص قصيرة بقلم م. محمد إيهاب الأزهري

القطعة الذهبية 

1- القطعة الذهبية

كنت شاردا أفكر في نعم الله عليَّ, إذ أقضي كل صيف أمام شاطئ البحر هاربا من قيظ أسوان الذي لا يُطاق في أشهر الصيف, وأُمَنّي نفسي بقضاء وقت ممتع مع وجبة السمك هذه التي أحرص عليها كل سبت, موعد السوق الأسبوعي في المعمورة البلد. لفت انتباهي شيء ما, ولكن انجرافي خلف فكرتي ما برح يزيح هذا الخاطر بعيدا, حتى إذا ما انقطع حبل أفكاري انتبهت فجأة على مشهد نظافة محطة المعمورة اللافت. سرعان ما تبينتُ أن هذا كان خاطري المفقود. ركزّتُ بصري التي بدأ ينتابه الوهن, فوجدت عامل النظافة يكنس ما بين القضبان ويكاد يفلّي تراب الأرض فلا يترك به زُبَيْلة. لقد جلّت النظافة جمال لون التراب الداكن. وبدت المحطة في ثوب أنيق ما بين الرصيف والقضبان, وأضفت النسمة الباردة الآتية من البحر القريب مسحة شاعرية على الجلسة فوددت ألا يأتي قطار أبي قير الآن. نظرت إلى لفة السمك إلى جانبي ثم جُلتُ ببصري على ركاب الرصيف المقابل, ثم انتابتني بعض أضغاث الفكر لأنتبه مجددا على عامل النظافة وقد أصبح بمحاذاتي يعمل بجد, ولفت انتباهي تركيزه الشديد في انتقاء الزبالات وكأنه طبيب يجري عملية جراحية. نظرت إلى رصيف المحطة من أوله لآخره. لا يقل عن مائتي 200 مترٍ, يا لها من مسافة طويلة أظنه لن ينهيَها. كان رجلا خمسينيا تبدو على وجهه تقاسيم الرضا. سبحان الله.. أعرف أن رواتبهم ضئيلة, فمن أين جاء هذا الرجل بهذه العزيمة وما مصدر هذا الاستمتاع؟, ثم خطر ببالي أن عسى أن يكون ذلك خوفا من الملاحظ الذي يمر خلسةً على المحطات, ويحرر مخالفات للمقصرين... ربما. وفجأة ترك عامل النظافة مكنسته واقترب من ركاب الرصيف المقابل رافعا صوته: حد ضايع منه حاجة ذهب؟ وأخذ يكرر إعلانه راجعا من حيث بدأ الكنس. قد لا تكون صاحبة القطعة الذهبية المفقودة من ضمن هؤلاء الركاب. صدح الظهر بالآذان بينما بدا قطاري داخلا المحطة. كنت أرجو معرفة مصير القطعة الذهبية الضائعة, ولكن كان عليَّ أن أدرك صلاة الظهر في الحي لأنجز جدول أعمالي لليوم.

كانت زيارةٌ ضروريةٌ لطبيب الأسنان هي آخر ما بجدول أعمالي من مهام. بعد صلاة العشاء بحوالي ساعة ونصف كنت قد وصلت إلى عيادة الدكتورة, قالوا هي الأفضل في ما بين المندرة وأبي قير. كانت عيادة صغيرة وأنيقة. وكنت السادس في الدور من بين المرضى. وبينما انشغلتُ بترتيب ما سأقوله للدكتورة كي تعطيَني مستندات معتمدة أتمكن بها من صرف قيمة العلاج من مصلحتي الحكومية, إذ لفت انتباهي شيء ما. شردت قليلا في ما يتعلق بالكلفة العالية لإصلاح الأسنان التالفة. انتهت أفكاري بسرعة لأطوف ببصري على وجوه المرضى في العيادة. نعم إنه هو ذات الوجه..عامل النظافة الذي رأيته في الصباح كان من ضمن المنتظرين. ما شاء الله.. يبدو أن لديه القدرة المادية على علاج أسنانه في عياداتٍ خاصة.

الحقُّ أنّ ما قيل عن براعة الدكتورة كان في محله. لقد قمتُ راضيا عن الجلسة. ضربتْ الدكتورةُ الجرس إيذانا بدخول المريض التالي بينما جلستْ إلى مكتبها تكتبُ لي روشتة العلاج. حدثتُ نفسي: "يارب تكون روشتة رخيصة". كانت تنطق أسماء الدواء ثم تشرح دواعي استعماله في نبرة حانية فخمة. أخذت روشتتي وهممتُ بالانصراف بينما فُتِحَ الباب ودخل عامل النظافة. تنحيتُ جانبا موسعا له الطريق بينما قامت الدكتورة لاستقباله قائلة في نبرة حانية شفوقة: أهلا بابا... تعالى.


2- تعظيم سلام

أتاح لي قطار أبي قير تكوين بانوراما متكاملة عن الباعة الجائلين وعن المتسولين فيه. فأنا أراهم سنويا منذ ثمانٍ سنوات. منهم مَن ظل القطار محل أكل عيشه ومنهم من اختفى. في ذلك العام ظهر بائعٌ متجولٌ جديد. كان شابا ثلاثينيا قعيدا بُتِرَتْ ساقاه ويده اليسرى. تُرى ما تلك الحادثة الشنيعة التي فعلت به هذا؟ هل مرت عليه دبابة؟. كان وجهه صارم المعالم كأنه جندي وتبدو عليه أمارات الذكاء, وكان يبيع كروت ووصلات شحن وسماعات الموبايلات. سبحان الله... غيره ممن عاهاتهم أبسط بكثير يتسولون الناس. بل منهم من يعرض عاهته ليستدر بها إحسان الناس. الحقُّ أني أكبرتُ هذا الشاب لثلاث شيم؛ فهو لم ييأس ولم يستسلم, وهو يكسب اللقمة الحلال, ثم هو ذو زوقٍ راقٍ في اختيار سلعته التي يبيع. عادة ما يبيع هؤلاء المناديل الورقية, ولكنّ أعجبني من هذا الشاب أنّ بضاعته نوعية. كان يفترش كرتونة سميكة ويزحف بيمناه بينما كروت الشحن تحت إبطه الأيسر وسلوك سماعات الهاتف تلتف حول عنقه. 

في يوم آخر, كنتُ أستقلُّ بمقعدٍ بنهاية العربة. ظهر بائع الكروت في أول العربة وأخذ يخترق الازدحام بإصرار ويبيعُ بِضاعتًه ذات اليمين وذات الشمال. فلما وصل إليّ بششت له وهممت بقول شيء, فتهللَ وجهُهُ ظانا أني سأبتاعُ منه, ولكني قلتُ له: • أنا عايز أقولك حاجة.... ثم أديتُ له التحيةَ العسكريةَ المعروفة قائلا: 

• تعظيم سلام عشانك. 

صمتَ الشابُّ لبرهة لا يعرف ماذا يقول, ولمِعتْ عيناه لِما رأى مني ثم قال متطلعا إلى ردي:

 • ليه عملت كده؟

 • إكبارا لك وتحيةً. أنت شابٌ مكافح تأكل من عرق جبينك. 

ارتسمتْ فوق وجهه تعبيراتٌ تريد أن تنفرطَ إلى كلمات ولكنه اكتفى بهز رأسه متحسرا وقال:

 • ده احنا كنا...... 

ولم يكمل. فدعوت له بخير, وزحف هو مُكملا طريقه. 

 طيلة عامين بعد ذلك لم أرَ بائع كروت الشحن البتة. وفي هذا العام فوجئت به على رصيف محطة أبي قير وهو على كرسي متحرك. نزل عن كرسيه حيث رفعه أحد الركاب إلى داخل القطار, ثم ركب هو معتمدا على ذراعه السليم. ثم نزل بنفس الطريقة في محطة باكوس فقررت أن أتبعه علّي أعرف سبب اختفائه المدة السابقة. نزل من الرصيف بكرسيه المتحرك عبر الممر المنحدر المُعدِّ لذلك, ثم سار عبر شارع السوق قليلا إلى حيث دكان صغير لا يزيد عن متر مربع واحد ملاصق لسور المحطة. انتظرتُ ريثما يفتح دكانَه ويبدأ بمباشرة عمله. جاءه أحد جيرانه فحياه بأجمل العبارات ووفتح له الدكان. كان دكانا لبيع جميع متعلقات التليفون المحمول. غمرني شعور جارف بالسعادة لِما أرى. ذهبتُ إليه وطلبت شُحنةً بعشرة جنيهات وأخذت أتفقد بنظري محتويات الدكان. أمسك بجهاز الشحن ووضعه على طاولةٍ أمامه. أخذ يتطلَّعُ إلى وجهي باهتمام بينما أعطيه رقم هاتفي. أخرجتُ عشرةَ جنيهاتٍ من جيبي ودفعتُ بها إليه. ولكنه رفض رفضا باتاً أن يأخذ مني مال, ولم تفلح جهودي معه شيئا. كانت مُفاجأةً لي, فشكرتُهُ ومضيتُ والإحراج يغمرني.


3- ومن شر حاسد إذا حسد

زبون سوق السبت بالمعمورة, خاصة سوق الطيور, يعرف هذه السيدة التي تجلس تحت سور المحطة تذبح الطيور وتنظفها. تجلس تحت شمسية لا تكاد تحجب عنها أشعة الشمس وسط الريش كأنها تتدثر به. منهمكة في تنظيف بطة بينما تمد ساقيها في سروال بالي وسط لوحة فنية رُسمت من الريش الملوّن بالقرمزي والأبيض والأسود. كانت هذه هي أول جولة لي في السوق. وضعتْ البطةَ في كيس ثم حملت الطيور المذبوحة إلى جانبها وأخذت تغطِّسُهم في قِدرٍ كبير به ماء أسود يغلي فوق كومة من الجمر. بيدها اليمني بط وباليسرى دجاج. كانت تمشي بظهر مَحنيّ. كان الناس يتركون طيورهم لديها ثم يعودون لاستلامها بعد حين. تعجبتُ كيف تستطيع تمييز ذبائح الذبائن إذا ما عادوا لاستلامها وقد زال عن كل ذبيحة ما يُميزها! كان لي بطتان صغيرتان وأرنبٌ. سألتها عن الحساب, أجابت: 

 سبعة جنيهات لكل ذبيحة. 

استكثرت المبلغ فقد كنت أُقَدّرُ عشرة جنيهات فقط للذبائح الثلاث. حاولتُ الفصال معها فقالت وقد عادت لمقعدها فوق أريكة الريش, أن عليها أن تدفعَ لنظافة المكان بعد انفضاض السوق. أتى بعض الزبائن لاستلام ذبائحهم وبدا لي جليا أنهم لم يستلموا الطيور التي اشتروها. شخصتْ عيناي نحو بطتيي اللتان تعبت في انتقاهما سمينتيْن. فهما وذاك الأرنب المذعور بروتيني للشهر القادم كله. أخذت أقلب بصري بين البط والأرانب أتتبع مسار بضاعتي وهي تنتقل من طور إلى طور كي لا تتوه عن عيني حتى وصلوا إليَّ في أكياسهم بسلام. في قطار أبي قير قطعتُ أذكاري التي أضبط إيقاعها على إيقاع عجلات القطار وأخذتُ أحسب كم تكسب تلك السيدة في الشهر. فقد أنهت في ساعة أو تزيد قليلا خمس بطات وأربع دجاجات وأرنبين وأربعة أزواج حمام. أي خمسة وثمانون 85 جنيها, فيكون إجمالي دخلها في يوم حتى عصره حوالي 544 جنيها, أي 2176 جنيها شهريا. لا بأس, دخلٌ جيد لو كانت بلا مَعيل. عدتُ لأذكاري وأنا أتأرجح بشدة مع هزات القطار الذي بدا وكأنه يرقص الدبكة فوق القضبان. 

في السبت التالي ذهبت إلى سوق المعمورة لشراء لا شيء محددا بقدر ما كنت أريد أن أفعلَ شيئا أُمضي فيه وقتا. مررت في طريق عودتي لمحطة القطار بجزّارة الطيور, فوجدتها جالسةً بلا عمل تهش الذباب عن وجهها, لم يكن في يدها ولا بجانبها ما يُنبِؤ عن يومٍ جيد. كانت تكلم نفسها وتُخَمِّسُ بكفها اليُمنى في الهواء وهي تتمتم بالدارجة:

  من شر حاسد والحسد. 

اقتربتُ منها ناظرا باستغراب ممهدا لسؤالي: 

• ما لك يا حجة خير؟

 • أعوذ بالله من دي ولية, يا ساتر, والله يوم ما بتيجي السوق بتوقف حالي. أعوذ بالله من شر حاسد والحسد. 

وأخذتْ تُخمّسُ بكفها إلى الجهة المقابلة من سور المحطة. فهمتُ أنها تتعوذ من حسد سيدة كانت تجلس قبالتها. نظرتُ إلى حيث أشارت فلم أتبينْ من الازدحام أحدا بعينه. تركتُها وذهبتُ ولا شاغل لها غير الحسبنة والتخميس بالكف وهي تدعو: 

• إلهي تنشكي ف قلبك, أعوذ بالله, إلهي يبتليك بمصيبة تزيحك, يجيلك ف رجليكٍ يجيلك ف عافيتك.


4- البليد

يُوَفِّرُ قطار أبي قير سوقا رائجةً لفئةٍ من التجار السرِّيحة نظرا لاكتظاظه بالركاب. يبيع هؤلاء التجارُ كلَّ شيء. قسمٌ كبيرٌ منهم يتَّبعون أسلوبا جديدا في التسويق قد يحققُ لهم مبيعات أكثر. يقوم هؤلاء برمي بضاعتهم في حجور الركاب بعددٍ محددٍ يمنةً ويسرة. حتى إذا ما وصلوا إلى نهاية العربة, عادوا إلى نقطة البداية وجمعوا ما رموْه ومعه أثمان ما قد بيع. فلو كنتَ من ركاب قطار أبي قير فلربما أُلقيَ في حِجرك مرةَ حلوى أو مجموعةُ إبر ودبابيس أو كُتَيِّبٌ وملصقات أو شرابات. أذكرُ مرةَ عندما اصطحبتُ أسرتي إلى المصيف وركب أطفالي قطار أبي قير لأول مرة, جاء أحدُهم وألقى على كل منا عبوةً من الشيكولاتة. نظر أطفالي إليَّ نظرة انبهار وقد أعجبهم هذا القطار الذي يوزع الحلوى مجانا على الركاب. كان ذلك منذ زمنٍ بعيد. 

 عشرةُ جنيهاتٍ فقط هي ثمن بخس لمجموعة من ثلاثة شرابات رجالي. دأب هذا الشاب على مدار أعوام على بيع الشرابات الرجالي. ولكن يبدو أن هذا الشابَّ الوسيمَ ضعيفٌ في الحساب. فدائما ما كان يعود إلى العربة سائلا الركاب: "حد ناسي معاه شرابات يابهوات؟"  وفي إحدى المرات, جاء بائع الشرابات ووضع جوال شراباته على أرضية القطار بمحاذاة أحد الأبواب وأخذ يَعُدُّ شراباته. وفجأةً انتابته هستيريا الصياح: "فيه شرابات ناقصة". واعترته نوبة من الهياج فأخذ يسب الدين للركاب الذين يسرقون الشرابات, ولصاحب المحل الذي يعد عليه الشرابات ويخصم عليه قيمة ما فُقِدَ, وللحياة ولكل شيء. كان يسب ويلعن ويبعثر الشرابات في الهواء فسقط منها خارج القطار ما سقط, ثم جلس هو على الأرض نادبا حظه التعيس. لحسن الحظ كان القطار متوقفا, فأحضر له بعض الشباب ما سقط خارج القطار, وأعطاه آخرُ خمسة جنيهات رأفةً بحاله وتعويضا له عما فقد فأخذها منه. بعد ذلك بأسابيع, رأيته نازلا من القطار بعد وصوله محطة الاسكندرية حاملا خلف ظهره جوال شراباته, وإذا بأحد الركاب يتبعه ويسلمه بعض الشرابات التي تركها بعض الركاب على مقاعد القطار الخالي. 

في العام التالي رأيتُ ذلكَ الشابَّ يبيع أكياس الحلوى, ثم يعود إلى العربة سائلا الركاب: "حد معاه كيس وناسي يا بهوات؟"        

وفي العام التالي تحيَّنتُ ظهور هذا الشاب لأرى ماذا عساه يبيع, ولكنه لم يظهر مرة أخرى.


5- أمواج سبتمبر

إمّا أن يتم نقلي إلى الإسكندرية أو أموت. لم يعد لدي أي مجال لمزيد من الاحتمال. لا أمل لدي في موافقة وكيل الوزارة على النقل. بل لا أمل لأي موظف في خيرٍ من وراء هذا الوكيل البغيض. وكيل وزارتنا معقدٌ نفسيا, أسود البشرة نحيل الجسد دائم العبوس حاد العبارات يحب أذية خلق الله. يؤشِّر بعبارة "لا أوافق" على أي طلب قبل أن يُتِمَّ قراءته. كان الوكيل حريصا على عزل نفسه عن الناس فلم يُر قط خارج جدران المصلحة, فلا يشارك في حفلات أو مناسبات أو حتى المصايف التي تنظمها الوزارة. لم أحاول تقديم طلب النقل وشرح أسبابه حتى لا تضيع محاولتي الوحيدة هباءً. فسلَّمتُ أمري لله وبِتُ أنتظر المعجزات. كان لي مصيفي الخاص بالإسكندرية. فانتهزتُ فرصة وجودي هناك وقابلتُ مدير فرع الإسكندرية وعرضت عليه تقديم طلب النقل للفرع مباشرة, ومن ثَمَّ يمكن لمدير فرع الأسكندرية أن يوصي بالقبول, فيقع الأمر على وكيل الوزارة البغيض موقع التنفيذ. ولكن مدير فرع الإسكندرية رفض متعللا بأسباب واهية. 

في أواخر سبتمبر تكون الأسكندرية ساحرة. تَبرقُ الأمواجُ حاملة في ثنايا ثبجها الآلاف من ذراري الأسماك, فتبدو تحت أشعة الشمس كشذرات الذهب. منحنيات ذهبية تتلوّى على القاع عبر شاشةٍ المياه الصافية فيما يشبه خلايا النحل السداسية. تركت جسدي للأمواج تأرجحه بلين وانسيابية ثم نصبت قامتي فإذا بوكيل الوزارة البغيض على بعد خطوات مني, ومعه رجلان لا أعرفهما. راودتني فكرةُ أنْ لو رآه بعض موظفينا هنا فلربما فكّر أحدُهم في إغراقه والاستراحة من شروره. اقتربتُ من الرهط عائما ثم انتصبتُ موليا ظهري للجماعة وأخذت أسترق السمع. سرعان ما تبيّنتُ أن الرهط ما جمعهم إلا البحر. لكن ليس الحديث حديث الرجل ولا النبرة نبرته. يتكلم الوكيل بهدوء وبتؤدة مُتَكَلَّفةٍ وابتسامة لقيطةٌ تعلو وجهه, بينما سلَّمَ جسده للموج الحاني يفعل به ما يشاء. سمعت الوكيل يقهقهُ ولم يكن أحدٌ ليتصور أن الوكيل يمكن أن يقهقه قبل الآن. ترصَّدت تحركات الوكيل في المنتجع فعرفت محل إقامته, وكنتُ على موعدٍ معه في اليوم التالي عند الموج. كان الوكيل بمفرده مما شجَّعه على التَصابي مع الأمواج الكتومة, كان يقفز عاليا كالأطفال برغم سُكُونِ البحرِ وحُنُوِّ الأمواج. سبحت على ظهري وارتطمت به عمدا ثم اعتدلت مبادرا بالاعتذار: "متأسف خالص. الله ..سعادة الوكيل؟ أنا آسف ياافندم. سعادتك هنا؟". رد الوكيل: "لا أبدا محصلش حاجة". ثم أردف في صلف: "أيوه أنا واخد شاليه هنا. وانت؟". "أنا كمان هنا في شاليه 7ب لو يلزم أي خدمات, تحت أمرك". دلَّك الوكيلُ صدره بالماء المالح ونظر إلى خط الأفق وهو يقول: "الجو زي سويسرا". ثم ابتسم تلك الابتسامة اللقيطة وقال بلهجةِ مَن يريدني أن أنصرف: "وانت إيه أخبارك يا باشمهندس؟". تأملته مليِّا, المياه صافيةٌ كمياه الصنبور والرمال تبدو لامعة ً في القاع, لَفَتَ نظري بطنُه الغاطسة تحت الماء وكأنها بطن حاملٍ في شهرها الخامس وقلت: "والله الحمد لله يا افندم. أهه بنستمتع شوية بالجمال ده قبل ما نرجع للمشاكل". قال الوكيل بغير اكتراث ودون أن ينظر إليَّ: "مشاكل إيه ياباشمهندس؟". وانتهزتُ الفرصةَ فأخبرتُهُ عن مشكلتي التي تحتّم نقلي للإسكندرية. كان يستمع ويترنح مع حركة الموج البارد وكأنه تحت تأثير البنج. ظلَّ يبحلقُ في خط الأفق ولا يُزيد عن إصدار صوتٍ من حنجرته ينمُّ على أنه يتابع ما أقول: أُُ, أُُ, أُُ. ولما انتهيتُ قال لي الوكيل وهو على حاله تلك المترنحة: "خلاص, تعالالي بالليل الشاليه بطلب نقل بتاريخ قديم وأنا أخلصهولك وخلاص". تدافعتْ إلى شفتيَّ بضع عبارات الشكر تحت تأثير المفاجأة,  ثم انسحبتٌ بسرعة تاركا إياه في غيبوبته. 

وفي الصباح كنتُ أستقل القطار إلى ديوان الوزارة بالقاهرة لنهو إجراءات النقل.


6- الطابق السابع

قررت زيارة مكتبة الإسكندرية في الغد فبحثت عن موقعها على الإنترنت, عرفت مواعيد الزيارة, ووجدت على الموقع فعاليات الغد وفيها جولة تعريفية مجانية عبر أروقة المكتبة, وعلى الراغبين في الانضمام تسجيل أسمائهم, فسارعت بتسجيل اسمي قبل اكتمال العدد. وفي العاشرة إلا خمس دقائق من صباح اليوم التالي كنت أمام مكتب الاستقبال داخل المكتبة. سألت عن الجولة التعريفية فقالت لي موظفة عشرينية شابة أنها ستبدأ بعد خمس دقائق وعليَّ الانتظار ريثما يتجمع الزوار. أخذت أتجول بالقرب من المكان حتى مر ثلث ساعة دون أية إرهاصات, فشرعتُ في مغادرة المكان لأتفقد المكتبة. فإذا بالموظفة الشابة يستوقفني: "لحظة من فضلك, الجولة هتبدأ دلوقت". ولم يكن في الجولة سواي. عرفتني بنفسها, هي خريجةُ كلية الآداب قسم مكتبات ومسؤولةُ الجولاتِ التعريفيةِ بالمكتبة. تتكون مكتبة الإسكندرية من سبعة طوابق بكل طابق عدة أقسام. نزلنا بالمصعد إلى الطابق الأول. ثم مرت بي المرشدة على كل طابقٍ صاعدةً السلالم وأنا من وراءها تعرّفني بأقسامه حتى وصلنا إلى الطابق السابع وقد أعياني المجهود وبدأتُ ألهث. ثم صحبتني إلى القاعات المخصصة للدرس وأرتني قاعات المؤتمرات والغرف الجانبية الصغيرة المجهزة للباحثين, وأخذنا ننتقل من مصعد لآخر تارة لأعلى وتارةً لأسفل حتى شعرت بالدُوار. شرحت لي خطوات الحصول على تصريح باستخدام الإنترنت, ثم اقتادتني إلى أحد أجهزة الحاسب الخاصة بالبحث عن الكتب, لا أعرف في أيِّ طابق نحن الآن, وشرحت لي كيفية فهرسة الكتب وكيفية استخدام التطبيق الالكتروني للوصول إلى مكان حفظ كتاب ما بالتحديد, ثم عرضت عليّ استخدام التطبيق لو كنت أريد إيجاد كتاب معيّن. انتهزت الفرصة وأخبرتها أني سأبحث عن كتاب لي في المكتبة بعنوان "تطبيقات عملية في نظم المعلومات الجغرافية". وبالفعل أدخلت عنوان الكتاب, فخرج لي كل شيء عن الكتاب مع رقم طويل, من هذا الرقم تستطيع تحديد رقم الطابق ورقم القسم ورقم الحافظة ورقم الرف. كنت قد بدأت أشعر بالإعياء عندما اكتشفتُ أننا بالطابق الثاني بينما الكتاب بالطابق الخامس. قالت: "ياللا بينا", فقلت: "طب فيه أسانسير؟" قالت: "طبعا". وفي الطابق الخامس تركتني حتى وصلتُ للكتاب بنجاح. ثم بدأت تشرح لي خطة المكتبة في تحويل الكتب إلى صور ضوئية, ودعتني إلى أقرب حاسوب, ثم شرعت تشرح لي كيفية معرفة ما إذا كان الكتاب موجود على الرفِّ أم هو قيد المسح الضوئي, وعند أقرب حاسوب من الحواسيب المنتشرة في كل مكان, أدخلت عنوان كتاب ما, فظهر وبجواره علامة حمراء. فقالت: "هذه العلامة تعني أن الكتاب قيد المسح الضوئي", فحمدتُ الله أن لن نذهب في رحلة البحث عنه. ثم بدا لي من حديثها أن الجولة قد انتهت. فقد وجَّهتْ لي عباراتِ الشكر على زيارة المكتبة, وأن عسى أن أكون قد استفدت من شرحها. وبدوري وجهتُ لها جزيل الشكر على تعبها معي, ولم أنس أن أثني على كفاءتها وحسن درايتها. ثم تركتني وانصرفت بينما أخذت أنا تصريح بساعة إنترنت وجلست استرخي. وفي طريق خروجي من المكتبة, مررتُ مرة أخرى بمكتب الاستقبال. كانت مرشدتي تجلس على مكتبها الصغير متهللة الوجه, تقلب بضع أوراقٍ بشغف ونشاط, وقد ارتسمت على وجهها تقاسيم الرضا والسعادة.


7- الجبن الرومي

في عام 1992 تم انتدابي للعمل بالري المصري بالسودان قبل أن تتضاعف المرتبات ست أو سبع مرات بعد 2010. وكان العُرف في العمل أن يتولى المهندس الموجود تدريب المهندس الجديد على أعمال قياس تصرف المياه في نهر النيل. وفي 1998 استقبلنا مهندسا جديدا يدعى السيد السيد, فرافقني إلى مواقع قياس التصرف كالعادة. ولكنه بدا منذ اللحظة الأولى فاقدا للتركيز كمن عينه على هدف آخر غير العمل بالموقع. كان السيد السيد مديرا لمكتب وكيل الوزارة بالشرقية. وعندما انتدب هذا الوكيل للعمل بالسودان سرعان ما ألحق به مدير مكتبه. لا أنكرُ أني وجدتُ في نفسي على السيد السيد عندما أخذ مكاني مديرا للمكتب الفني بالسودان. فأنا متخصصٌ في علم الهيدرولوجيا وأعمل به منذ 1988 ولي في هذا المجال أبحاث وكتب. الحقُّ أني لم أَرُق يوما لقادة الوزارة كمديرٍ للمكاتب الفنية, ولا أعرف لذلك سببا سوى أن دمي قد يكون ثقيلا. 

ثم ذهب وكيل وجاء وكيل والسيد السيد ينال رضا الجميع. دخلتُ ذات مرة على الوكيل الجديد فوجدت السيد السيد واقفا يروي له النكتةَ الجديدةَ وقد وضع ملفا تحت إبطه . يقول الناس أن السيد السيد مهندسٌ "حَبُّوب". روى لي بلسانه في ساعة صفا كيف فرَّ من ري الصعيد هربا من صداع المزارعين وشكاواهم, واستطاع بتوصيةٍ من عضوٍ بمجلس الشعب, الانتقال للعمل بالقاهرة. كان السيد السيد مختصا بكل شؤون الوكيل حتى مأكله وملبسه وأمور أسرته في القاهرة. بالإضافة إلى ذلك كان السيد السيد يتولى تدبير ميز المهندسين فحمل عنا عبء تدبير وجبات الغداء. والحقُّ أنه أداره بجدارة, فكان يُعدُّ لنا أطايب الطعام وكان هو نفسه رجلا أكولا. ساءت علاقتي به بعد أن وشى بي عند وكيل الوزارة. فقد اتهمني عنده زورا إني سمحتُ لبعض السودانيين بدخول حرم مساكن الري والتصوير فيها بكاميرا الفيديو. لم تكن كاميرات الفيديو بهذا الانتشار ذلك الوقت, فما كان مني إلا أن لقّنتُه درسا في الأخلاق لا ينساه. مكثتُ مع السيد السيد عاما قبل أن أنهي انتدابي عام 1999.

 استطاع السيد السيد بما لديه من مواهب أن يعود من السودان مديرا للمكتب الفني في أحد أكثر قطاعات الوزارة حساسيةً. ثم استطاع أن يعود إلى السودان مستفيدا من ميزتها المالية عدة مرات حتى أصبح وكيلا للوزارة هناك. على مدى 12 عاما من التعامل مع قيادات وزارة الري السودانية, تمكن السيد السيد من بناء علاقات وثيقة معهم. يحب السودانيون من الهدايا الجبن الرومي والفانلات الداخلية, فهي لا تُصنعُ هناك. روى لي أحدُ من عاصروا السيد السيد هناك أنه كان يهادي وزير الري السوداني. وبالمخالفة لقواعد القبول بالجامعات السودانية, تمكنتْ علاقات السيد السيد من إلحاق ولده السيد بإحدى كليات الهندسة هناك. لا أعرف على وجه الدقة لمَ لمْ يدخله إحدى الكليات الخاصة بمصر التي كانت تقبل أي شيءٍ ذلك الوقت! العجيبُ أن السيد السيد قد غادر السودان تاركا ولده الطالب السيد السيد السيد يقيمُ في استراحةٍ مخصصةٍ لمهندسي الري بالسودان. بعد أن أنهى السيد السيد السيد دراسته في السودان, حصل على معادلةٍ من هندسة القاهرة, تم بعدها تعيينه مهندسا في ذات القطاع الحساس الذي يعمل به والده. بحلول عام 2017 كان السيد السيد قد حاز منصب رئيس مجلس إدارة بينما كنتُ وآخرين مثلي مركونين وظيفيا منذ 2014.


8- الرقم 100 مليون

للتسوق بالهايبر ماركت الفخمة متعةٌ خاصة ولو لم تشتر شيئا. لاسيما للصعاليك أمثالي. فهي فرصةٌ أن تعيش لحظاتٍ كما تعيش الشريحة البرجوازية الذين يبتاعون بضائعا بألف جنيه في المرة الواحدة. كما إنها فرصة أيضا للتنزه المجاني بالمحلات الفخمة الأنيقة. وإذا كنتَ في أشهر الصيف القائظة, فيمكنك أن تقضي هناك ساعة تستمتع خلالها بالهواء البارد ثم تخرج كما دخلتَ. يمكنك أيضا أن تفعلَ الشيءَ نفسه في البنوك للاسترخاء. غير أن البنك يتيح لك الجلوسَ أو حتى مواعدةَ صديق لقضاء مصلحة. فيمكنكما زيارة بنكٍ وسحب رقمين, ثم تجلسان حيث الهواء البارد حتى تنهيا موضوعكما وتنصرفا. لهذا أحرص كل صيف على زيارة هايبر فتح الله جملة ماركت فرع المنتزه الفاخر. فهو قريبٌ مني. قد اشتري ربع بسطرمة ذرا للرماد في العيون وقد أخرج خالي الوفاض. يدَّعون أنهم يبيعون بأسعار الجملة بينما الأسعار أرخص بالبِقالات, والناس يعلمون ذلك ويشترون. يعلن المحل عن عروض مجانية كلما سمحت الأرباح بذلك. قد تربح كيلوجراما من الجمبري أو المانجو الهندي أو قميصا صيفيا إذا ما ابتعتَ اثنين. واليوم هو يومان قبل عيد الأضحى والمحل مكتظٌ بالروّاد لاسيما على أقسام اللحوم. كنتُ قد أنهيتُ جولتي بالطابق العلوي الذي به قسم اللحوم وعدتُ للتجول بالطابق الأرضي قبل أن أَهُمَّ بالانصراف. ثم سمعتُ الميكروفون يعلنُ عن عرض ديك رومي مُجمّد مجانا لكل من يبتاع واحدا. رفعتُ رأسي ونظرتُ نظرةً جامعةً لمشاهدة رد فعل الرواد, قطع الجميع شغفهم ونظر بعضهم لبعض نظرة استطلاع سريعة. بدأت حركةٌ للأعلى على استحياء أولا ما لبثت أن تحولت إلى زحف جماهيري. زحفتُ مع الزاحفين فاكتظ السلمُ الكهربائي فجأةً فصعد البعضُ مستخدمين المسار الهابط وأظهروا في ذلك لياقةً بدنيةً يحسدون عليها, ووقع في الفخ أيضا بعض الحسناوات اللاتي كنَّ يتجملن بالإتيكيت. عندما وصلتُ إلى قسم اللحوم الداجنة نزعتُ رقمي التسلسلي كسائر الناس وانتظرتُ. قلتُ أتفرج ثم أفوّتُ رقمي. كان يُنادى على الرقم, فيوزن له ديك رومي مجمّد ثم يُلصقُ عليه بطاقة صغيرة بالسعر, ثم يُسَلَّم للمشتري مع الثاني المجاني بدون بطاقة سعر, فيحملهما إلى عربة مشترياته وسط احتفاء من معه من أفراد أسرته ثم ينطلقون انطلاق الفائزين. أخذتُ أتجول ببصري عبر وجوه المنتظرين, وتذكرتُ قصيدة أحمد رامي "الصبِّ تفضحُه عيونُه". رجال كثر من أولي الكروش ونساء أنيقات وأطفال نِظَاف. البعضُ ينتظرُ بصلفٍ مصطنع. بعد برهة, أعلن الميكروفون أن الديوك الرومية الموجودة تكفي حتى رقم 32 , ولم يفت الميكروفون أن يشكر الرواد ويعتذر لمن لم يحالفه الحظ راجيا تكرار زيارتهم, فكان على الباقين الانصراف. فبقي من بقيَ بينما عاد الباقون بلا ديوك وأنا معهم. نظرتُ إلى كفي فوجدتُ بها ورقة صغيرة كُتِبَ عليها " رقم 61".


9- نصيحة مفقوءة العينين

بينما كنت أتجول في ذلك البستان الرحب, أنصتُ إلى معزوفة الطيور الخالدة, إذ خرجوا عليَّ من بين الأشجار الملتفة حتى توحدوا في جسدٍ واحد. لم أعد أنصتُ إلا لصوت قدميه تشقان العشب الكثيف, زكيُّ الرائحة أبيض الثياب, ذو وجهٍ قبيح لكنه باسم. قال لي:

 • مرحبا. ما الذي جاء بك إلى هنا؟

قلت مرتبكا:

 • ما قصدتُ إلا الاستمتاع بهذا المشهد البديع. 

• إذن.. اسمع نصيحتي.. عليك بهذا الطريق – وأشار إلى طريقٍ صاعدٍ في الهضاب – ثم سر بمحاذاة الشاطئ.. ولا تلتفتَ لشيء. 

كان شاطئا متحجر الأمواج ولكن ثَمة صوت هدير يداعب أذنيّ. سرتُ كثيرا قبل أن أفترش العشب هنيهةً. سمعتُ صوتا خافتا ينادي. غلبني الفضول. كان عصفورا مفقوء العينين محبوسا في قفصٍ ذهبي. قال لي: "عند مفترق الطرق, عليك بالطريق الوعر". وأعطاني حبة قمح. كانت مخلفاتُ الغربان تغطي الثرى عند مفترق الطرق. وقفتُ برهةً عند بداية طريقٍ قاحلٍ تحفّ جانبيه نباتات الصبار حتى منتهى البصر. لكنني قطفتُ ثمرةً يانعةً من إحدى الأشجار التي تطرِّز جانبيِّ الطريق الآخر ومضيت, يممتُ شطر تلك المصابيح التي تتلألأ من بعيد. كان الظلام قد حلَّ. سرت كثيرا حتى بدأتْ الأشجار تتباعد شيئا فشيئا. أشواك كثيفة عالية تغزو المكان. تثاقلتْ خطاي وبدأت الوحشةُ تدبّ في نفسي. ثم بدأت رائحةٌ كريهةٌ تتسلل إلى أنفي. هممتُ بالعودة, استدرتُ فوجدتُه يقف متحفزا ملوحا لي بخنجر مسموم. نفس الشخص غير أن ثيابه ملطخة بالدماء, كريه الرائحة عابس الوجه. تسمّرت قدماي وسقطت من كفي حبةُ قمحٍ أتلفها العرق.


10- مهمة صحفية

كنتُ مكلفا بمهمةٍ صحفيةٍ لتغطية عودة اللاجئين إلى قراهم بعد مذبحة البوسنة والهرسك عام 1995. فلمحتُه يقف وحيدا وقد بدا عليه واضحا الإعياء الشديد. كان مثلي يرقبُ حشود العائدين من المستضعفين من النساء والرجال والشيوخ والأطفال وهم يتوجهون إلى أطلال منازلهم. حنينُهم مكسورٌ وعيونُهم شاخصة. لم يكن يبعث الحياةَ في المكان سوى صيحاتُ الأطفال الذين لم يعوا حقيقة ما حدث بعد. اقتربتُ منه علَّني أجدُ لديه مزيدا من المعلومات أسكبها تقريريَ البائس فقلت له: 

• حمدا لله على السلامة, أراك متعبا. 

نظر إليَّ بعينيه الواسعتين الآسفتين وقال:

 • لقد مشيتُ ورفاقي أميالا طويلة نحمل هذه الأحمال الثقيلة. ولكني سعيد على أية حال بوصولنا الديار.

 • شكلك ينبؤني أن لك أصولا عربية؟

 لمعت عيناه وهو يجيب:

 • أحييك على فِراستك. إن شجرة عائلتي تعود جذورها إلى عهد صلاح الدين الأيوبي. 

لمعت عيناي بنظرة إعجاب فدنوتُ منه أكثر وسألته متلهفا:

 • إذن كيف جئتَ إلى هذه البلاد؟ 

أخذ نفسا عميقا وبدا وكأنه قد رحل إلى عالم آخر ثم بدأ يحكي: 

• بل جاءها جدي الأكبر. فقد بلغنا أنه دخلها مع جيوش محمد الفاتح عام 1453 م. ثم عاش بها حتى مات. وكان دائم التفاخر أنه من نسل فرس صلاح الدين الأيوبي شخصيا. خيول كثيرةٌ ستجدُها هنا من أصول عربية, قُتِلَ الكثير منا تحت القصف ومن بقيَ فها هم يجرّون عربات العائدين عبر الحدود إلى هنا. ثم عاد وشرد بعيدا مرة أخرى وكأنه يلملم دخانا تبعثر في الفضاء.


11- صفو الخاطر

شأن كل من ترعرع في عهد الملكية, كان والد زميلي في الفصل يريده طبيبا. الفروق الطبقية الشاسعة في عهد الملكية ملأت صدور آبائنا رغبةً أن يروا أبناءهم شيئا كبيرا. وبات ذلك ممكنا في عهد مجانية التعليم فكبرنا وحلم الطبيب في مخيِّلة زميلي يكبر معه. نشأ والده في بيئة فقيرة بالصعيد وحصل على الدبلوم المتوسط بعد 1952 , ثم أتاح له قبول ذوي المؤهلات المتوسطة في كليات الهندسة خلال السبعينيات, أن يصبح مهندسا. تفجرت عند الرجل جينات العظمة المكبوتة فيه فرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب, ولكنه حصل على ثلاثة عشر صوتا. كان والدي يحب أن يتهكم عليه عندما افتتح محلا صغيرا لبيع قطع غيار السيارات وكتب عليه لافتةً براقة؛ "هندسة ميكانيكا السيارات", "هذا تخصصه وليس اسم محل" قال والدي. 

ضمَّني أساتذتي لفريق أوائل الطلبة في المدرسة فكنتُ قبلة بعض الطلبة أشرح لهم بعض ما استغلق عليهم, وكان بعضهم يأتيني المنزل أحل لهم بعض مسائل الرياضيات. كان زميلي متوسط الذكاء, فكنا نقضي بعض الوقت بعد العودة من المدرسة أشرح له بعض قواعد الإعراب قبل أن ننصرف إلى منزلينا. لم يساعده ذكاؤه إلا في الحصول على نسبة 75% في الثانوية العامة فضاع حلم الطبيب. كان صيتُ الدكتور فاروق الباز زائعا ذلك الوقت, فمنّى زميلي نفسه بأن يكون مثله, وسلّى بذلك نفسَه عن ضياع حلم الطبيب فدخل كلية العلوم. منذ ذلك الحين, انقطعت كل الصلات بين زملاء الطفولة, وانشغل كلُّ بدنياه. 

تخرجت أنا مهندسا. وبسبب طبعي الانعزالي, لم يكن لي أي نشاط اجتماعي. فعكفت على كتابة بضعة كتب في مجالات اهتماماتي كان منها كتاب ذاع صيته في نظم المعلومات الجغرافية. كان هذا الكتابُ سببا في اتصال أحد أساتذة الجامعة بي لتدريس دورة تدريبية في مجال تخصصي, وكانت هذه الدورة بدورها سببا في تجدد اتصال زميل الطفولة بي. كنا في عقدنا الخامس. 

اتصل بي زميل الطفولة معرفا نفسه بالدكتور. لم يستطع الظفر بالتعيين معيدا في كليته, فعمل باحثا في معهد بحوث المياه الجوفية, استطاع بعدها الحصول على درجة الدكتوراه. اعتذرت له بلطف عن عدم إمكانية تلبية دعوتِه باللقاء في النادي. فبالإضافة إلى طبعي الانعزالي, فقد بدا هو كمن يبحث عن أحدٍ يفرغَ في أذنيه خلاصةَ حكمته وذؤابةَ ثقافته التي لم تجد من يقدّرها. والحقُّ أنه لم يكن لدي رفاهيةُ أي هامش فكري أو ذهني أستطيعُ منحه لقضايا هامشية. فقد كانت قضايا الأمة مع تبعات عملي بمكتب نظم المعلومات الخاص بي, تستحوذ على كامل طاقتي الذهنية. يعكّر عليَّ صفو خاطري ستون ألف شريفٍ وشريفةٍ بالمعتقلات, والذين يموتون تحت التعذيب. ثم كان عليَّ إنجاز أعمال لعملاء مكتبي تُقدَّرُ بحوالي 13000 ثلاثة عشر ألف جنيه. تقبل الرجل عذري بأريحية, وتحدث عن إمكانية عقد دورة تدريبية لهم مستقبلا فرحّبتُ بذلك. 

اتصل بي بعد ستة أشهر تقريبا وطلب زيارتي في مكتبي لأنجز له بعض العمل. استغرق الاتفاقُ على ملامح العمل حوالي خمس عشرة دقيقة, ثم انتظرت انصرافه لأشرعَ في ما طلبه مني كي أتمكن من إنهائه في الوقت المحدد, لكنه قضي قرابة ساعة ونصف يتحدث. فدخله الشهري يتعدى 20000 عشرين ألف جنيه - بحساب عام 2019. لكلِ فردٍ في أسرته سيارتُه الخاصة؛ هو والزوجة والإبن الوحيد. لا يكاد يجد وقتَ فراغٍ لكثرة أعبائه. جولاتُه بمختلف دول العالم أوصلته لحد القرف من البلد وناسها. سألني عن الأتعاب فأخبرته أني سأحاسبه بتسعيرة الطلاب المُخفّضة إكراما للزمالة القديمة. صحبتُه إلى سيارته, هذه فاتورة علاج والدي, وهذه فاتورة كهرباء شقة حي العقاد... كان الرجل كمذياع المقهى. ودعتُه ثم عدتُ مسرعا إلى مكتبي. أعمال الكومبيوتر خاصةً الرسومية, تسببُ إجهادا ذهنيا وبصريا, لاسيما في هذه المرحلة المتأخرة من العمر. أنجزتُ العملَ في الوقت المحدد وأرسلته للدكتور مع بيان قيمة الأتعاب, ولكني فوجئت أن الزميل كان ينتظر مني العمل مجانا مراعاةً للزمالة القديمة. وأخبرني في رسالة ألكترونية أنّي خدعتُه بعدم ذكر الأتعاب مقدما. وأن الناس يدفعون فقط من أجل تعلم برنامج جديد لا من أجل إنجاز أعمال بسيطة, ويعاونُ بعضُهم بعضا مجاملةً. ثم قال معتذرا أنهم لا يحتاجون إلى ما عملتُه لهم, فقد قاموا بذلك بأنفسهم. لم يشغلْ بالي ما حدث فلم تكن المرةَ الأولى, كما أن مبلغ الأتعاب كان زهيدا. كنت على عجلة من أمري, فعليَّ التحركُ فورا إلى محطة القطار لانتظار ابني الأصغر العائد من زيارة أخيه المعتقل منذ ست سنوات في سجن طرة.


12- إنهم لا يضعون الكمامات

لم أعدْ أستمتعُ بنسمات بحرك يا أبو قير. رائحة المجاري تصل أنفي من مكان ما عند الموج البعيد. خلال الثمان سنوات الماضية هُدمت الأبنيةُ القديمة ذات الطوابق الأربعة وحل مكانها أبراج ذات ستة عشر طابقا. لم تعد أبو قير حيا واحدا بل أربعة أحياء بعضها فوق بعض. أدى هذا إلى شح المياه بالطوابق العليا, وتضاعفت كميات الصرف الصحي أربعة أضعاف. في المساء ذهبتُ إلى الصيدلية لشراء كمامة تكون مُعدّة لمعالجة رائجة المجاري في أنفي. قالت الصيدلية أنه لا يوجد مثل هذا النوع من الكمامات فتعجبتُ لذلك, خرجتُ للشارع أتبيَّنُ الأمر فإذا لا أحدَ يضع كِمامة على أنفه, كيف لم ألحظ هذا من قبل؟ كيف يتحمل الناس هذه الرائحة! 

انتهت أجازتي بسرعة فتأهبتُ للعودة إلى الصعيد مرورا بالقاهرة لإنجاز بعض المشاوير. كان مقعدي في قطار رقم 934 الفاخر بالقرب من دورة المياه. لطالما كانت هذه القطارات نظيفة ومميزة, فما بال رائحة المجاري تملأ الجو رغم أن بابَ العربة مغلق. قلت عسى أن يكون باب دورة المياه مفتوحا فقمت أتفقده فوجدته مغلقا أيضا ولا شيء بها يبعث هذه الرائحة. شيءٌ محيِّرٌ. اختلستُ نظرةً إلى الركاب فإذا لا شيء غير معتاد. جلس بجواري شابٌ عرفتُ أنه من كفر الدوار. كان محبطا ومستاءً للغاية. وبالرغم من أني لست ممن يحبون الثرثرة في القطارات, فقد أثار فضولي لأعرف سر استيائه. اتضح أن أهل كفر الدوار كلهم مستاؤون لطرد مستشفى كفر الدوار الحكومي لامرأةٍ تُوشك أن تلد. اشترط الطبيب لقبولها أن يوِّلدها قيصريا, ورفضت إدارة المستشفى توفير سرير لها. وما أن خرجت السيدة إلى الشارع حتى جاءها المخاض. رقدت على أسفلت الشارع أمام المستشفى وتطوعت ممرضة لتولدها. قال لي جاري أن الفيديو منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي, ففتحت هاتفي وأجريت عملية بحث فتصدر الفيديو القائمة. كانت سيدةٌ ترقد على الإسفلت ويغطيها بعض المارة ببطانية بينما تقوم ممرضة بتوليدها والزوج هائج يطلب من المارة الشهادة معه في محضر يحرره ضد الطبيب. وضعت السيدة جنينها بصورة طبيعية ودون الحاجة إلى عملية قيصرية. ساعد المارة السيدة في النهوض وأعطتها الممرضة وليدها, بينما أوقف الزوج سيارة أجرة وانصرفوا. كان دم الخَلاص من أثر الولادة يرسم على الإسفلت ما يشبه علامة استفهام مشوبة بالاحمرار. سألت جاري هل تغمر رائحة المجاري كفر الدوار؟ قال: لا. 

 قبيل الوصول إلى طنطا سمعتُ همهمةً بالعربة ما لبثتْ أن تحولت إلى جلبة وحركة غير معتادة, بعض الركاب وقفوا ينظرون من النوافذ. لقد كنتُ بالقطار الذي شهد حادثة إجبار شابين على القفز من القطار لعدم دفعهما قيمة التذاكر. أثناء مروري بالمنوفية, كانت نفس الرائحة تصل إلى أنفي رغم النوافذ المعزولة جيدا. فتحتُ هاتفي المحمول ودخلت على مواقع التواصل الاجتماعي لأطالع الأخبار المتداولة, فاجتاحني خبر مقتل خمسة في قرية بالمنوفية وهم يحاولون تسليك بالوعة صرف صحي أحالت قريتهم إلى بركة صرف صحي. كانت رائحة العفن تملأُ العربة, نظرت إلى الركاب حولي فإذا لا أحد يشاركني قرفي. 

عند مدخل القاهرة هدَّأ القطار من سرعته. نظرت من النافذة فوجدتُ شاحنةً مقلوبةً وقد غطت حمولتُها من أطنان البطاطس الأرض. عرفتُ فيما بعد أن السائق قد مات. كانت السيارات والأتوبيسات المارة تتوقف عند مكان الحادث وينزل ركابها لجمع ما تيسر من البطاطس التي لم يُقبض ثمنها بعد! جاء أحدهم بجلباب واسع وعقده من جهة الرأس وملأه بالبطاطس, ولكنه لم يستطع حمله, فطلب من المارة مساعدتَه على رفعه فوق كتفه. هذه البطاطس الحرام عندما تصير إلى بالوعات الصرف الصحي, لابد وأن الرائحة ستكون أكثر عفنا...والجو لا يتحمل المزيد. 

وصلت القاهرة بعد يومين من السيول التي ضربتها. رائحة العطن في كل مكان. الناس يتحركون بنشاط إلى مصالحهم وكأنهم لا يَشُمُّون شيئا. رائحة الصرف الصحي بالأحياء الشعبية لا تطاق وبالأحياء الفاخرة أيضا, الناس في محلات الأكل والشرب يأكلون ويشربون بلا امتعاض. فكرتُ عسى أن أجدَ كِمامةَ المجاري في صيدليات القاهرة الفخمة ولكني لم أجن سوى نظرات الاستغراب. انهيت مأموريتي على مضض وهرعت إلى كافتيريا محطة رمسيس الفاخرة ذات السلم الكهربائي المتحرك لأتنسم هواءً نقيا وطلبتُ كوبا من الكباتشينو. ولكن رائحة المجاري هجمت عليَّ أيضا من قِبَلِ دورات المياه المقابلة للكافتيريا. هززتُ رأسي متحسرا, فقد كنتُ أعرف حال دورات المياه في قطارات الصعيد. كان عليَّ تحملُ 14 أربعة عشر ساعة سفرا إلى أسوان. 

جلس في المقعد الذي خلفي مباشرة رجلٌ في أواخر الستينيات يرتدي عمامة وجلبابا ويتوكأ على شومة. ما أن تحرك القطار حتى خلع هذا الكهل حذائه ومد ساقه للأمام, فشممت رائحة قدم لم تمسها المياه منذ شهرين. كدتُ أتقيأُ. انتظرتُ أحدا يبدي استياءه معي لنشكِّلَ معا جبهة معارضة متحدة ولكن لم أرصد أيةَ رِدةِ فعل. أخرجتُ من حقيبة الكتف المِنشفة وزجاجة العطر وأفرغتُها في مسند المقعد والمِنشفة التي لفَّحتُ بها رأسي وذهبت في نوم عميق. 

 في طريقي من محطةِ أسوانَ إلى الحي الذي أقطنُ به, مررتُ على لجنةِ مركز أسوان الانتخابية الواقعة على كورنيش النيل, كان يوم الاستفتاء. أناسٌ بسطاءٌ ينفضّون عن شاحنة كبيرة وبأيديهم بعض أكياس السكر وزجاجات الزيت, وقد صُبِغت سبّابتُهم بلون الدم. أدرتُ وجهي الجهة الأخرى فإذا النيلُ كهلٌ كئيبٌ وكأنه يجري رغما عنه. نسماتُهُ التي كانت تحملُ الانتعاشَ باتت تبعث على الغثيان. لمّا وصلت إلى العمارة التي أقطنُ بها بعد غياب شهرين.. لم أصدق.. هذا غير ممكن.. رائحة المجاري تنبعث من غرف الصرف الصحي بالحي وتملأ كل جزيئات الهواء. كنتُ أقطنُ في الطابق الرابع والأخير. دخلتُ شقتي ووضعتُ حقيبتي وعدت مسرعا هاربا أتسلق السلم الحديدي المؤدي إلى سطح العمارة. أريد استنشاق هواء نظيف, سأختنق, لم تعد رئتاي تتحملان. أخذتُ أصعَدُ السُلَّمَ والسلم لا ينتهي. ظللتُ أصعد وأصعد والسلم يتطاول معي. كنتُ أصعد وأنظر تحتي, الأرض تتباعدُ والهواء يصبح أنقى. كدتُ أُلامسُ السحابَ. وفجأة بدتْ لي فتحةٌ دائريةٌ مغطاةٌ بغطاء خشبي عتيق. أزحتُ الغطاء وأخرجت رأسي من الفتحة أتلفّتُ يُمنة ويُسرة, ما هذا الجمال الأخّاذ؟ وما ذلك العبير المعطَّر؟ وما تلك الروعةُ؟ وخرجتُ.

تعليقات